بذرة الصحافة في أيامها الأولى
في الصف السابع الإعدادي، كنت أتابع وبشغف، ما كان ينشر في الصحف السورية الرسمية الثلاث، بصورة يومية، إضافة إلى ما ينشر في صحيفة الموقف الرياضي، وبقية الصحف الرياضية الخاصة، ومنها جريدة الأسبوع الرياضي، الرياضة، الملاعب.
البداية كانت في جريدة الأسبوع الرياضي الصادرة في دمشق، وتواصلي مع أسرة تحريرها، وبانتظام، وفي حينها أرسلت عبر الهاتف، الذي لم يكن يعرفه إلاّ القلّة من أهالي الرَّقة، أو بالأحرى كان حديث العهد في بلدة صغيرة مثل الرّقة. مدينة حديثة البناء على الفرات مترامية الأطراف، وكنت أتردد إلى بيت صديق لي، وبعد أخذ الإذن منه سمح لي باستعمال هاتفه، بإرسال أول رسالة صحافية لي، بعد أن أعددت أوّل خبر رياضي عن مسابقة رياضية أقيمت في مدينتي، في حينها، وأقيمت بمشاركة عدد من المحافظات، وكنت أرسلت ما تضمّنه الحدث إلى إدارة الصحيفة الرياضية التي تصدر مع صباح كل يوم اثنين، وتصل الرّقة متأخرة بسبب الشحن والمسافة البعيدة التي تفصل الرّقة عن دمشق العاصمة حيث مركز إدارة تحريرها، ما اضطرني إلى انتظار البولمان حينذاك إلى أن وصلت الرحلة حاملةً الركّاب والكثير من الطرود والصحف المحلية التي كانت تصل، بصورة دائمة، متأخرة إلى ما بعد الساعة الثامنة مساءً، وقد تتأخر في بعض الأحيان إلى أكثر من ذلك بحسب أحوال الطقس.
وكنت أبادر في انتظار وصولها إلى مكتبة الخابور التي تقع بجانب سينما غرناطة في شارع 23 شباط، المعنية باستلام وتوزيع الصحف والمجلات على الدوائر الحكومية والمشتركين، وما يفيض منها يباع بصورةٍ مباشرة على الروّاد، واستمرت على هذه الحالة سنوات وسنوات، وبعد أن تم وصول الصحف جميعها وأخذ مكانها في واجهة المكتبة تناولت صحيفة الأسبوع الرياضي، وقلّبت صفحاتها، وفوجئت بنشر الخبر الرياضي الذي سبق أن أرسلته في اليوم الذي انتهت فيه المسابقة الرياضية، وقرأته مراراً، في أحد أعمدتها الداخلية، ومذيّل باسمي، وهذا ما أفرحني كثيراً، ولم أكن أصدق في بادئ الأمر ما حدث معي، وإلى اليوم، وكانت البذرة الأولى في بلاط صاحبة الجلالة.
وتابعت على هذا المنوال، بإرسال المزيد من المواد الصحافية إلى جريدة الأسبوع الرياضي في كل أسبوع، بشكل منتظم وبدون مقابل، وظللت على هذه الحالة أكثر من عامين، وبعدها انتقلت للعمل مراسلاً رياضياً في جريدة الموقف الرياضي الأسبوعية هي الأخرى، التي تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر، ومن أهم الصحف التي تنشر عنها: جريدة الثورة اليومية، فضلاً عن الصحف التي تصدر في بقية المحافظات، وبصورة يومية.
في جريدة الموقف الرياضي، الحال اختلف كلياً من حيث طبيعة النشر، والمواد التي تتطرق إليها، وحجم الصحيفة أيضاً يختلف، ناهيك عن المردود المادي، وإن كان غير مجزٍ، وهذا لم يعفني من الاستمرارية فيها لسنوات، وفي إحدى المرات نشر لي تحقيق مطول تناولت فيه واقع رياضة الرّقة، وأسباب تراجعها، والسلبيات التي تقف عثرة في وجه تقدم رياضتها، ونشرت المادة في عام 1982، كما تضمّنت المادة التحقيقية المنشورة الاستثناءات التي كانت تعطى بدون مبرر لبعض مسؤولي المحافظة العاملين في اللجنة التنفيذية للاتحاد الرياضي، وآخرها الاستثناء الذي منح لرئيس مكتب التنظيم الذي كان يفاخر بثناء سبق أن حصل عليه بالوساطة من الاتحاد الرياضي العام في سورية، وهو أكبر هرم رياضي، وهذا لم يعجب رئيس اللجنة التنفيذية في المحافظة، ولم يرضَ عن المادة الصحافية المنشورة التي تناولت الكثير من صور الفساد، ما دعاه إلى أن تطاول عليَّ، رحمه الله، في مكتبه، وكنت في وقتها طالباً في الصف الثالث الإعدادي.
كل هذا لم يعفني من الاستمرارية في صحيفة الموقف لسنوات، وبعدها انتقلت للعمل في القسم الرياضي في صحيفة البعث، 1982 ـــ 1991 وبعد هذه الفترة بادرت الجريدة بافتتاح مكاتب لها في المحافظات، وكان للرّقة نصيب في افتتاح مكتب لها في المجمع الحكومي في الطابق الثالث بإدارة الزميل الكاتب والصحافي المتميّز تركي رمضان، وبقيت في العمل إلى ما بعد عام 2007، بالتعاون مع بعض الزملاء لقاء أجر زهيد جداً، وكنا نتناول واقع الرّقة الخدمي والاقتصادي والثقافي، وما يمكن أن يخدم القارئ. طبعاً في هذه الفترة لم يتوقف نشاطي الصحافي عند جريدة البعث، بل صرت أرسل عدداً من المواد الصحافية التحقيقية المصورة، والحوارات المستفيضة إلى مجلة الصقر الرياضية، وإلى مجلة الدوحة القطرية التي كان يترأس تحريرها الناقد المبدع محمد رجاء النقاش، رحمه الله، ونشر لي فيها مادتين تحقيقيتين عن تاريخ الرّقة، وآخر عن مدينة الرَّصافة الأثرية، بالإضافة إلى مراسلتي لمجلتي العربي والكويت الكويتيتين، وجريدة الاتحاد الإماراتية، كما عملت مراسلاً لمجلة الأزمنة الأسبوعية السورية، ومحرراً بقسم التحقيقات في جريدة الشرق القطرية في عام 2008، وغيرها من المواقع الإلكترونية، ومنها رأي اليوم، وغيرها كثير.
وبعد ترك العمل في جريدة الشرق القطرية والعودة إلى سورية عملت مراسلاً لجريدة الثورة، ولأكثر من أربع سنوات إلى أن بدت ملامح الثورة السورية تفرض مكانها في الشارع، وأخذت حيزاً واسعاً من قبل المعارضين للنظام، وبعدها سافرت إلى الولايات المتحدة الأميركية في رحلتي السابعة عشرة، وكان ذلك في صيف عام 2013، وكانت هناك فترة ركود أثناء وجودي في أميركا، وعدت أمارس هوايتي ونشاطي الصحافي، وبحب جارف، حيث إقامتي في النمسا، بعيداً عن أيّ مكسب مادي، ناهيك بما أسجله من ملاحظات في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، مثال فيسبوك، فضلاً عن إنشاء عدد من الصفحات التي تتعلق باللاجئين وواقعهم المزري، وصفحة تتعلق بالأديب الراحل الدكتور عبد السلام العجيلي، وأخرى ثقافية باسم "حديث الأربعاء"، وصفحة "سوالف"، التي تهتم بواقع أهلنا في الرّقة الذين عاشوا مرارة الواقع، وما حل بهم جرّاء عصابات داعش، وقسد وكل ما يرمي إلى تخليصهم من مؤسيات الحياة، وألوانها التي ظلّت تلاحقهم حتى في أماكن اللجوء التي وصلوا إليها، وعاشوا فيها، واستقر أغلب النازحين من هول الدمار والحرب فيها، وهي كما يؤكد الأخوة اللاجئون الذين نلتقي بهم بصورةٍ دائمة ويبوحون لنا عن همومهم، فإنَّ الحال في الدول الأوروبية التي استقبلتهم ورحّبت بهم، كانت الملجأ الوحيد لهم وأنقذتهم من حكم جائر، ومن قيادة متسلطة متخشّبة لا تعرف سوى إذلال الناس، والعمل على قتلهم وتشريدهم وتحطيم معنوياتهم، ما دفعهم إلى الهرب بعيداً إلى حيث هم يقيمون، وهاهم يعيشون اليوم في أمان واستقرار لم يعهدوه في بلدهم.