ما إن أغلقت مراكز الاقتراع أبوابها، وكشفت صناديق التصويت عن نتائج الاستفتاء التاريخي على مصير اسكتلندا، حتى بدأ التفكير بتداعيات ما جرى وتردداته المستقبلية، تحت شعار عريض: اسكتلندا التي فشلت بالحصول على الاستقلال، والمملكة المتحدة التي نجت من التشرذم والانهيار.
ثار النقاش في لندن وأدنبرة، بين الساسة والمهتمين من كل الأطياف السياسية، وعبر وسائل الإعلام التقليدية ووسائط الإعلام الجديد، بعد دقائق قليلة على ظهور النتائج الأولية غير المكتملة، وحتى قبل الإعلان الرسمي عنها.
وانطلق النقاش من السؤال التقليدي: "والآن، ماذا بعد؟ ماذا بعد قرار أكثر من مليوني اسكتلندي رفض الاستقلال، وماذا بعد أن عبّر أكثر من مليون ونصف مليون اسكتلندي عن رغبتهم به؟"
ومن هذه الأسئلة ولدت أخرى تعبّر عن هواجس اللحظة الحالية: "ماذا عن مستقبل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، المغمور بنشوة الانتصار؟ وماذا عن مصير الزعيم القومي أليكس سالموند، الذي فشل في تحقيق حلم جده بالاستقلال؟"
ولم تتأخر ردود فعل كاميرون وسالموند، فبعد ثلاثين دقيقة فقط من الإعلان عن النتائج النهائية، التزم رئيس الوزراء البريطاني بقيادة ثورة في طريقة عمل المؤسسات الدستورية عبر بريطانيا العظمى.
بدوره، سبق سالموند، كاميرون، عقب الإعلان الرسمي عن النتائج النهائية للاستفتاء، وخرج ليعترف بالهزيمة، وليذكر حكومة كاميرون بأهمية التزامها بالعهود والوعود والمواثيق التي قطعتها للشعب الاسكتلندي، والتي تتضمن المزيد من السلطات في التشريع والاقتصاد والتشغيل وغيرها من الجوانب التي تمس الحياة اليومية للناس.
وهو الأمر الذي رد عليه كاميرون، بالقول إنه "شرع، فوراً، بدراسة الإصلاحات الدستورية التي وعد بها اسكتلندا، مع عدد من أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية في لندن. والتي ستنطوي على إعلان حكومي عن المزيد من تفويض الصلاحيات للمدن والمناطق في المملكة المتحدة". لكنه أردف، أن "أي من هذه الإصلاحات لن يتم تنفيذها فعلياً إلا بعد الانتخابات العامة في شهر مايو/أيار المقبل، وبالتوازي مع إصلاحات دستورية أخرى تخص انجلترا، العضو الأكبر في الاتحاد البريطاني".
مع ذلك، يؤكد نيكولاس وات، في صحيفة "ذي غارديان"، أن "وزراء الحكومة البريطانية يريدون تجنّب تكرار الأخطاء التي حصلت في الاستفتاء الأول حول استقلال إقليم كيبيك الكندي في العام 1980، عندما وعد رئيس الوزراء الكندي آنذاك بيار ترودو، الاتحاديين بسلسلة من الإصلاحات الدستورية خلال الحملة الدعائية، ثم أخفق في تنفيذها، ما حرّض الانفصاليين على الدعوة إلى استفتاء جديد في العام 1995 كاد أن ينجح في فصل كيبيك عن كندا".
وربما هذا ما يفسر سرعة إعلان كاميرون عن التزام الحكومة بتنفيذ حزمة الإصلاحات التي وعد بها في الأيام الأخيرة من الاستفتاء، في اتفاق مع زعيم حزب "الأحرار الديمقراطي"، نيك كليغ، نائبه وشريكه في الحكومة، وزعيم حزب "العمال" المعارض، إد ميليباند.
وهو أيضاً ما يفسر الكلمات التي قالها سالموند، عندما حذر من تأخر حكومة لندن في الإيفاء بوعودها، معتبراً أن تلك الوعود قطعت لكل الاسكتلنديين، بمن فيهم أكثر من مليوني شخص صوّتوا لصالح البقاء ضمن الاتحاد.
ويمكن التأكيد، أن مجمل التصريحات التي رددها كاميرون، وما ردده بعد ذلك الكثير من الساسة والإعلاميين والمحللين، يشير إلى أن استفتاء اسكتلندا، وإن كان لم ينجح في فصل الإقليم عن الاتحاد البريطاني بصفة تامة، إلا أن تداعياته الكبرى امتدت الى أرجاء الاتحاد كافة، وشرّعت الأبواب أمام نقاش دستوري قد يعيد صياغة المؤسسات والسياسة البريطانية على حد تعبير شين ثوماس، الذي كتب في صحيفة "ذي تلغراف": "ربما أنقذنا الاتحاد، ولكن علينا الآن إعادة صياغة السياسة في بريطانيا". إعادة الصياغة هذه، يقول البعض إنها قد تجعل من المملكة المتحدة أقرب الى الاتحاد الفيدرالي، حيث تكون للأقاليم سلطات واسعة في كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يستثنى من ذلك السلطات السيادية التي تبقى بالأساس من اختصاص الحكومة المركزية.
وإن كان السؤال عن اليوم التالي للاستفتاء يخص بالأساس مستقبل بريطانيا واسكتلندا في جزء منه، فإن السؤال نفسه يخصّ أيضاً مستقبل الرجلين اللذين تصدّرا المشهد السياسي البريطاني والاسكتلندي خلال الأسابيع الماضية، وعليهما كانت تقع مسؤولية تحقيق الاستقلال أو منعه: كاميرون وسالموند.
ويشير وات في "ذي غارديان" إلى أن "كاميرون نجا من الموت السياسي، تماماً مثل ما نجت رئيس الوزراء السابقة مارغريت تاتشر، بعد غزو جزر فوكلاند في العام 1982، ومثلما نجا توني بلير عشية التصويت على حرب العراق في العام 2003، إلا أن الخطر لم يزل يهدده لأن طريق المفاوضات مع الاسكتلنديين، وطريق ثورة الاصلاحات الدستورية في جميع أقاليم بريطانيا، يمثلان حقلي ألغام قد ينفجرا في أي لحظة".
من جهة، سيؤدي التباطؤ بتفويض السلطات التي وعدت بها اسكتلندا إلى تجديد الدعوات لاستفتاء آخر، وربما في وقت أقرب مما يتخيّل البعض، وبالمقابل قد يؤدي الإسراع بمنح سلطات إضافية لاسكتلندا إلى استفزاز النواب الانجليز الذين رفعوا وتيرة احتجاجهم ومطالبهم.
وستضع حجم هذه السلطات وطبيعتها كاميرون وحزبه في مواجهة مع شريكه في الحكم، نيك كليغ، الذي لا يبدو متشجعاً على التوسع كثيراً في السلطات المزمع منحها لإسكتلندا.
يضاف إلى ذلك، أن أية سلطات "ذاتية" يتم منحها لإسكتلندا، وبغض النظر عن حجمها وطبيعتها، قد تستخدم من قبل خصوم كاميرون، وخاصة حزب "الاستقلال" وزعيمه اليميني، نايجل فراج، كورقة لإضعاف كاميرون وحزبه في الانتخابات العامة المقبلة.
أما سالموند، فتُلخّص جيني هجيل، في "ذي تلغراف"، مصيره "بعد أن خسر الرجل معركة الاستقلال، لم يعد له ما يفعل، وعليه أن يرحل". لا غرابة أن اتفق سالموند نفسه مع هذا الرأي، فالرجل خسر فعلاً "معركة حياة"، إذ قضى أكثر من أربعين عاماً من حياته الشخصية والسياسية يحشد لهذا الاستفتاء، ويحلم بدخول التاريخ متوجاً بلقب "بطل الاستقلال" الاسكتلندي. ومع ذلك، يجب الانتظار قليلاً قبل إصدار الحكم النهائي على حياة سالموند السياسية، فهذا الرجل العنيد، قد يرغب بالبقاء في منصبه، كرئيس لحكومة اسكتلندا، وزعيم للحزب القومي فيها إلى ما بعد الانتخابات البريطانية المقبلة، للتأكد من أن اسكتلندا قد حصلت على ما تريده، وما وعدت به من صلاحيات وسلطات ذاتية، ويكون بذلك قد تحقق له بعض الحلم قبل مغادرة الحلبة السياسية.
أما إن تأخرت لندن في الوفاء بوعودها، فقد يعود الرجل القومي القوي ثانية، ويدعو لاستفتاء جديد، على قاعدة أن بريطانيا لم تف بتعهداتها وخذلت معارضي الاستقلال قبل مؤيديه.