خاض رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، في اليومين الماضيين، مفاوضات طويلة وشاقة مع نظرائه زعماء باقي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وما كاد "الدخان الأبيض" يخرج من نوافذ مقر الاتحاد في العاصمة البلجيكية بروكسل، وتتسرب الأنباء عن توصل المفاوضين إلى "اتفاق تسوية" للحفاظ على عضوية بريطانيا في الاتحاد، حتى ظهر كاميرون بمظهر المُنتصر مُدافعاً عن "الإنجاز" الذي تحقق لأجل بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي بشروط أفضل و"وضع خاص". وقال إنه سيضع "قلبه وروحه" خلال الحملات التي ستستبق الاستفتاء لدعم بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي وأهمية ذلك لجهة الأمن والرخاء الاقتصادي والاجتماعي.
صلاحيات سيادية لبريطانيا
شكّلت ملفات الهجرة والرعاية الاجتماعية، وسيادة بريطانيا، ومنطقة اليورو، جوهر المفاوضات بين كاميرون وباقي أعضاء الاتحاد الأوروبي الـ28. في ملف الهجرة والرعاية الاجتماعية، تمكّن كاميرون من انتزاع صلاحيات سيادية تسمح لسلطات بلاده بإبعاد أي أشخاص أوروبيين يُعتقد أنهم يشكّلون خطراً أمنياً، حتى لو لم تكن لديهم سوابق. كما انتزع كاميرون سلطات أوسع لحظر دخول وترحيل المجرمين. كما نص الاتفاق على تقييد حرية تنقل الأشخاص غير الأوروبيين المتزوجين من مواطنين أوروبيين، في محاولة لوقف ما يُسمى "الزيجات الصورية".
وطالب كاميرون تعليقاً مدة أربع سنوات، لمساعدات العمل ومساعدات السكن الاجتماعي التي تُمنح لمواطني الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة، إلا أنه وبفعل معارضة دول أوروبا الشرقية، حصل كاميرون على بند يسمح بـ"تعليق طارئ" لبعض المساعدات الاجتماعية للمهاجرين الجدد على مدى سبع سنوات بصورة تدريجية، مع ربط الإعانات العائلية بمستوى المعيشة في البلد الذي يعيش فيه الأبناء.
أما بخصوص العلاقة بين بريطانيا ودول منطقة العملة الأوروبية الموحّدة "اليورو"، فقد نصّ الاتفاق على ألا تُلزم الدول غير الأعضاء في اليورو بالمشاركة في تمويل عمليات الإنقاذ لدول أعضاء في اتحاد اليورو، مثل الأموال التي دُفعت لإنقاذ اليونان في السنوات الأخيرة. كما سيتم تعويض الدول غير الأعضاء عن أي أموال يُقدّمها البنك المركزي الأوروبي لدعم عملة اليورو. كما يُحرّم اتفاق كاميرون التمييز ضد الشركات والأفراد الأوروبية على أساس العملة الوطنية لبلدانهم، ومن شأن ذلك مساعدة الشركات البريطانية على العمل في أوروبا.
وفي ملف السيادة الوطنية، طالب كاميرون في مفاوضاته بتوضيح أن عبارة "اتحاد أوثق من أي وقت مضى" الواردة في الميثاق الأوروبي، لا تعني "التكامل السياسي" بين دول الاتحاد. ومع أن المفاوضات لم تكن في صالح كاميرون في هذه النقطة، إلا أنه ضَمَن التوصل إلى اتفاق لتعديل المعاهدات القائمة بحيث يكون واضحاً أن الإشارات إلى "اتحاد أوثق من أي وقت مضى" لا تنطبق على المملكة المتحدة. كما حصل كاميرون على تعديل آخر يضمن لأية دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد رفع "البطاقة الحمراء" لإعادة النظر في أي من تشريعات الاتحاد الأوروبي بدعم من 55 في المائة من الدول الـ28 الأعضاء في الاتحاد.
ويرى مراقبون أن الاتفاق الجديد الذي أحرزه كاميرون ليس مثالياً، ولكن لا ينبغي تجاهله، فأجزاء مهمة من الاتفاق الذي تم التوصل إليه في بروكسل أمس الأول الجمعة كانت حول حماية مصالح بريطانيا في المستقبل، وقد تمكّن كاميرون من المحافظة على بقاء بريطانيا في السوق الأوروبية الموحّدة من دون التورّط بـ"التكامل السياسي" مع دول الاتحاد. كما نجح كاميرون في حماية مصالح لندن كعاصمة مالية في الاتحاد الأوروبي على أساس "التنافسية" في مقابل "الحمائية" التي تفضلها دول مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، ومن شأن هذا الإنجاز مساعدة الشركات البريطانية على التوسّع في الأسواق الأوروبية.
اقرأ أيضاً: بريطانيا تعلن توصلها لاتفاق يمنحها "وضعا خاصا" بالاتحاد الأوروبي
سيناريوهات اليوم التالي
بعد انتهاء أشهر من المفاوضات بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، وتوصّل الطرفين إلى اتفاق "التسوية" أو "الحد الأدنى" كما يصفه أنصار بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، أو اتفاق "ذر الرماد في العيون" كما يراه معارضو بقاء بريطانيا في الاتحاد، سارع كاميرون إلى تحديد موعد الاستفتاء الشعبي حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي في 23 يونيو/حزيران المقبل، من دون الانتظار إلى العام المقبل، لا سيما أن الكثير من الأوساط الاقتصادية بدأت تضغط في هذا الاتجاه على أساس أن تأخير الاستفتاء ليس في مصلحة استقرار الاقتصاد. وعلى الرغم من تعالي الأصوات اليمينية المُطالبة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا أن جماعات الضغط المالية والاقتصادية، الأكثر تأثيراً، والأقرب من كاميرون، ترى أن خروج بريطانيا من الاتحاد يمكن أن يؤدي إلى تدمير مكانة لندن المالية وإلى عزل الاقتصاد البريطاني. في المقابل، يقول معارضو البقاء في الاتحاد الأوروبي إن خروج بريطانيا منه سيجعلها أكثر قدرة وانفتاحاً على الاقتصاد العالمي، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي.
ويرى كاميرون في بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي مصلحة وطنية أساسية، تُعزّز اقتصاد المملكة المتحدة، وأمن الأمة ومكانة بريطانيا في العالم. وفي مقابل ذلك، يعتبر كاميرون أن خروج بريطانيا من المجموعة الأوروبية ينطوي على نتائج سلبية على الاقتصاد الوطني ومخاطر جدية على الأمن البريطاني، وأن البقاء ضمن الاتحاد لا يوفر لبريطانيا الأمن الاقتصادي وحسب، بل والأمن القومي كذلك. ولكن عدداً من وزراء كاميرون لا يتفقون مع رأيه، وقد كشف الوزير السابق جون ريدوود، أنه "يعرف" ستة وزراء على الأقل يفكرون في الاستقالة من الحكومة إذا ما أُجبروا على التصويت لصالح حملة البقاء في الاتحاد الأوروبي. ويقول معارضو الاتحاد الأوروبي إن خروج بريطانيا منه سيجعلها أكثر قدرة وانفتاحاً على الاقتصاد العالمي، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي. ويروّج بعض المشكّكين في أهمية بقاء بريطانيا، لإمكانية الاقتداء بنموذجي النرويج وسويسرا، إذ بقي البلدان خارج الاتحاد من دون أن يحرمهما ذلك من توقيع اتفاقيات خاصة تضمن لهما حرية التجارة مع السوق الأوروبية الموحدة. فالنرويج تساهم في ميزانية الاتحاد بنحو 90 في المائة من مساهمة بريطانيا بالمقارنة مع عدد سكان البلدين، كما أنها تخضع لكل القواعد المنظمة للإنتاج والتجارة في الاتحاد لكي تضمن دخول سلعها إلى السوق الأوروبية. كما تخضع سويسرا لكثير من الالتزامات الأوروبية لكي تضمن حرية التبادل التجاري مع الاتحاد في عدد من القطاعات. ولا يوافق أنصار بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي على تبنّي أي من النموذجين، لأن ذلك سيُفقد بريطانيا دورها القيادي في أوروبا ويُخرجها من "المركز" إلى "الهامش"، وسيمنح المزيد من القوة داخل الاتحاد لألمانيا.
وكما هو حال الحكومة المُنقسمة، يبدو الرأي العام البريطاني متردداً ومُنقسماً كذلك بشأن مصير بلاده في الاتحاد الأوروبي، وقد أظهرت كل استطلاعات الرأي التي جرت منذ سبتمبر/أيلول الماضي، أن حوالي 51 في المائة من البريطانيين يؤيدون البقاء في الاتحاد الأوروبي، يقابلهم 49 في المائة ممن يعارضون ذلك. ويُعدّ حزب "الاستقلال" البريطاني، الحزب الوحيد الذي يدعو بشكل قاطع إلى انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. في المقابل ينتقد حزبا العمال والأحرار الديمقراطي الاستفتاء الذي تعهّد به كاميرون، مؤكدين أن لا مبرر لاستفتاء شعبي إلا في حالة طلب الاتحاد الأوروبي من حكومة المملكة المتحدة التخلي عن المزيد من سلطاتها الوطنية لصالح توسيع سلطات الاتحاد. وفي نهاية المطاف "على الشعب البريطاني أن يقرر في هذه اللحظة التاريخية إما البقاء في الاتحاد الأوروبي بعد إصلاحه أو الخروج منه"، كما قال كاميرون بُعيد التوصل إلى الاتفاق الجديد مع دول الاتحاد الأوروبي.
اقرأ أيضاً: بريطانيا تبدأ العام الجديد بالملف الأوروبي