ترتسم الآن خرائطُ، وتُخترع هوياتٌ، وتُستبدل هذه الأولوية بتلك، في وطن عربي ما عاد يستقرّ على اسم أو مُسمّى، إلا أن الظاهرة الأكثر وضوحاً هي أن سكانه أصبحوا "غير مرئيين"، بالنسبة لغيرهم، وأصبحوا كذلك بالنسبة لأنفسهم أيضاً في العقود الأخيرة.
من يرجع إلى الأمس، يكتشف أن الرحالة والسياسي والجنرال وعالم الآثار الغربي كان طيلة العقود الماضية يتصرّف وكأن "العربي" كائن لا وجود له، أو هو كائن "غير مرئي".
فالرحالة والحاج، حسب ليليانا سيميونوفا من معهد دراسات البلقان، حين كان يعود من رحلته إلى "الأرض المقدسة" لا يأتي على ذكر سكان هذه الأرض على الإطلاق، وكأنهم "غير مرئيين" بالنسبة له.
والسياسي والجنرال حين رسما بالقلم والمسطرة كيانات الدول العربية، لم يخطر ببالهما أنهما كانا يقومان بتقطيع أرض تسكنها مجموعات بشرية، بل كانوا يفعلون بذلك وكأنهم يقومون بتقطيع قطعة جبن إلى شرائح.
أما عالم الآثار فقد حفر وظل يحفر عميقاً باحثاً عمّا فهم مسبقاً وتوقعَ أنه موجود، حسب ناشر مجلة "على الآثار التوراتي" هيرشل شانكس، أي أن جدول أعمال "نصه" التوراتي هو الذي حدّد جدول "حفرياته" كما تقول كارول ميريز.
إذا تركنا السياسي والجنرال جانباً، نجد أن الرحالة والحاج وعالم الآثار ومُدمني قراءة الصحف الغربية ومشاهدي أفلام هوليوود، هم نمط من البشر يقعون ضحية نص إيديولوجي، ديني أو عنصري، يُخفي عنهم وجود الوقائع، بشراً وأزمنة، ويجعل كل ما يقع خارج النص الديني، وهو هنا التوراة التي تلتهم عقولهم، غير مرئي.
ما يرونه هو "وقائع" و "بشر" و"مشاهد" تواصل حياتها بين دفتي كتاب. بعض هؤلاء، ممن جاء إلى فلسطين، أو الجزيرة العربية، أو الشام أو العراق، وذهنه مكتظ بكل ما هو "توراتي"، أصيب بلوثة أصبح اسمها الشائع في صحافتهم "لوثة أورشليم"، والمصاب بهذه اللوثة تنتابه هلوسات غريبة تجعله يتصرّف وكأنه يعيش في عصور غارقة في القدم، وبعض هؤلاء المصابين ينصرف إلى تلفيق تحف ومصنوعات تؤكد له صدق هلوساته وما يظنه "واقعاً" على الأرض.
هذا العمى الذي يصيب الغربيين خاصة، لا يتعلق بالبصر بل بالبصيرة، فتجد الفرد منهم، سواء كان شاعراً أو رحالة أو روائياً ينظر ويحدّق بعينين سليمتين، إلا أنه لا يرى ما أمامه على الأرض، بل ما يختزنه في ذهنه من صور ومشاهد.
إنه ضحية ما أطلق عليها الفيلسوف الأمريكي رتشارد رورتي الكتب الأيديولوجية، الكتب التي تُضيّق آفاق الإنسان، سواء كانت سياسية أو تاريخية أو فلسفية.. إلخ. وينصح رورتي، مع الناقد الأمريكي هارولد بلوم، بقراءة الكتب التي تُحقق استقلالية الذات، مثل الروايات والمسرحيات والقصائد، أي فنون الأدب الخيالية.
هذا النوع من القراءة، كما يشرح كلاهما، يفتح الطريق إلى التعرّف على البشر وتفهّم تجاربهم ودوافعهم، أي أنه لا يسمح بجعلهم "غير مرئيين" كما تفعل كتاب الأيديولوجيات بمختلف أنواعها.
وحين نرى الآن هذه الفوضى العارمة التي تجتاح العواصم العربية، ألا نلاحظ انتقال هذا العمى إلى العربي نفسه، بحيث تحوّل حتى مُواطنه الذي يساكنه ويعيش بجواره إلى كائن "غير مرئي"؟ ثم ألا يفسّر هذا العمى هذه المذابح المجانية القائمة هنا وهناك؟