"بعد خراب مالطا..."، طالما ترددت هذه العبارة للتعبير عن السعي لإصلاح الأمر بعد فساده أو خرابه. وقد اعتاد الناس منذ ما يزيد عن مائتي عام على اجترار هذه العبارة كلما أرادوا القول بعدم فائدة الإصلاح وقد عم الخراب، أو أن إصلاح الخراب جاء مُتأخراً. تعود قصة "خراب مالطا"، حسب الروايات المتواترة، الى العام 1798عندما احتل جيش نابليون بونابرت الفرنسي جزيرة مالطا. ورغم قصر عمر الاحتلال الفرنسي للجزيرة الوادعة، شمال البحر الأبيض المتوسط، إذ لم يمكث جيش بونابرت هناك سوى عامين، إلا أنه ترك الجزيرة كوماً من الخراب، بعد أن عاث بها فساداً، ونهب قصورها وكنائسها ثم دمرها، وأجبر سكانها على التشرد إلى جزيرة صقلية. وبعد زوال الاحتلال الفرنسي، في العام 1800، عاد سكان مالطا بعد خرابها، فلم يجدوا من ديارهم سوى ركام مدن، وحطام أبنية استحالت أثراً بعد عين. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت عودة أهل مالطا بعد خرابها مثلاً.
حضر "خراب مالطا" مُجدداً بالأمس في "خراب حلب"، حيث استحالت المدينة السورية الأبهى والأجمل إلى كوم من الدمار والأنقاض، ولم يبق من "الشهباء" إلا صدى ضحكات ضاعت في أزقة الموت، أو غرقت في البحر مع الهاربين من لظى النار. غاب أهل المدينة تحت الأنقاض، أو خلف البحار، يتفرجون على ما تبقى من مدينة بنوها حجراً حجراً، وزينوا قوامها الرشيق بالفستق واللوز، بعد أن غسلوا وجهها بصابون الغار.
وسط ضجيج الموت الصارخ، وأمام ركام الجدران المطلية بالأحمر والأحمر والأحمر، يجتمع مجلس الأمن للاستنكار، ويتنادى بقايا العرب إلى اجتماع طارئ، وتفتح الشاشات عدسات الكاميرات لالتقاط المشهد الأخير قبل إسدال الستارة. يتفق المجتمعون، أو من سيجتمعون، على "هدنة إنسانية" تسمح بوقف النزيف لقطرتين أو ثلاث، ويختلفون على لون الدم وهوية الموتى. ينفضُّ الجمع وقد أضناهم الحديث، واستفزت مشاعرهم صورة الجثة المرمية على جثة بانتظار جثة مُحتملة تدفنهما.
في خلفية المشهد، يُنصت الحلبيون إلى هراء "حلب سقطت"، و"حلب تحررت" و"حلب تحترق" و"حلب تُباد"، وكأن المُتباكين على "سقوط حلب"، والفرحين لـ"تحريرها" لا يعلمون بأن الأشياء والأسماء والألوان، كلها، تساوت عند الحلبيين، "بعد خراب حلب".