بعد مضي شهرين على حملة الاعتقالات الواسعة، التي شنها جهاز أمن الدولة التابع للعاهل السعودي ضد المئات من النخب السياسية والفكرية والدينية داخل المملكة، بالإضافة إلى الشعراء والمحللين الاقتصاديين والكتاب في الصحف المحلية، لا يزال مصير المعتقلين مجهولاً حيث لم يتم توجيه اتهامات رسمية لهم أو عرضهم على النيابة العامة، كما لم تخبر الدولة ذويهم بمكان تواجدهم على الأقل.
وبلغ عدد المعتقلين أكثر من 200 شخص بحسب إحصائيات لمنظمات حقوقية مستقلة تعمل داخل السعودية، أما عدد الممنوعين من السفر، فأكثر من 60 شخصية. ومن أبرز المعتقلين الداعية الإسلامي والأكاديمي سلمان العودة، ورمز تيار الصحوة الشهير الداعية سعيد بن مسفر والمحلل الاقتصادي عصام الزامل، والشاعر زياد بن حجاب بن نحيت، والداعية سعد البريك والذي كان يعد أحد رجال ولي العهد السابق محمد بن نايف. كما شملت قائمة الممنوعين من السفر، كلاً من عايض القرني ومحمد العريفي وأحمد الشقيري، وهم دعاة كانوا مقربين من النظامين السابق والحالي.
وأدانت المنظمات الحقوقية حملات الاعتقال هذه، فيما وصفتها الصحف الغربية بأنها الأكبر في تاريخ المملكة. وأبدى المراقبون السياسيون حيرتهم من قرار ولي العهد محمد بن سلمان، بإسقاط "تيار الصحوة" وهو الحليف الأكبر لعائلته، منذ حادثة اقتحام جهيمان للحرم المكي عام 1979، حيث زُج بالمعتقلين في أماكن سرية تابعة لجهاز أمن الدولة وانقطع الاتصال بينهم وبين ذويهم، فيما تواردت الأنباء عن احتضار بعض مرضى السرطان والسكري منهم.
وعلى الرغم من أن أسباب الاعتقال تعود إلى العلاقة التي تربط بين المعتقلين وبين ولي العهد السابق محمد بن نايف، والذي أزيح بانقلاب أبيض ووضع بالإقامة الجبرية بعده، بالإضافة إلى رفض الكثير منهم المشاركة في الحرب الإعلامية على قطر، والتي بدأت بعد اختراق وكالة الأنباء القطرية (قنا) ونشر تصريحات ملفقة على لسان أميرها، كما رفض الكثير من الدعاة المحسوبين على تيار الصحوة، وهو أكبر تيار منظم نسبياً في البلاد، رؤية 2030 والتي تنص على خصخصة القطاعات العامة، وبيع شركة أرامكو وفرض الضرائب.
وإن كانت كل هذه التحليلات حول حملة الاعتقالات غير المسبوقة تبدو صحيحة، إلا أنها تغفل سببها الرئيسي وهو أن بن سلمان لم يعد يريد بعد اليوم أن يسمع صوتاً آخر سوى الأصوات المؤيدة له، حيث أنه بدأ بتصفية أنداده السياسيين داخل الأسرة الحاكمة، عبر عزل ابن عمه محمد بن نايف، وتفريغ وزارة الداخلية من قوتها عبر إنشاء جهاز أمن الدولة التابع له، ثم القيام بتصفية الساحة الفكرية والإعلامية عبر سجن المفكرين الإسلاميين المناوئين لسياساته أو حتى الصامتين عنها، وسجن الإعلاميين الذين رفضوا المشاركة معه في مشروعاته في المنطقة ثم عاد ليصفي الساحة الاقتصادية عبر عزله وسجنه لعشرات الأمراء الأثرياء ورجال الأعمال، وعلى رأسهم الأمير الوليد بن طلال والأمير متعب بن عبدالله وبكر بن لادن وصالح كامل.
وبعد مضي شهرين من الاعتقالات دون أي خبر حول المعتقلين وظروفهم، إلا بعض التسريبات البسيطة من قبل المعارضين، اختفت الكتابات الناقدة للمشاريع الاقتصادية والسياسية التي ينوي بن سلمان تطبيقها على المدى البعيد، فيما فضّل جزء من الكتّاب الصحافيين الهروب نحو بلدان مجاورة أو اللجوء للدول الغربية، كما هو حال جمال خاشقجي الذي قال إن المثقفين في البلاد صمتوا خوفاً، وإن السعودية لم تعد محتملة بعد اليوم.
وشكلت طريقة الاعتقالات ووحشيتها صدمة كبيرة لدى الشارع السعودي وأسر المعتقلين، حيث أن السلطات اعتادت منذ وقت طويل على توقيف معارضيها ولكن بطريقة أكثر هدوءًا عبر الاستدعاء لمراكز الشرطة ثم الاعتقال وتفتيش المنازل بعد إخلائها من النساء والأطفال، لكن الأمور اختلفت هذه المرة.
وتقول سارة (فضلت استخدام اسم مستعار) وهي شقيقة أحد المعتقلين لـ"العربي الجديد" إن "أشخاصاً جاؤوا باللباس الوطني وطرقوا الباب، ثم اعتقلوا أخي بقسوة شديدة وقاموا بالتفتيش داخل مكتبته وبين كتبه وفي محتويات حاسوبه الشخصي وصادروه مع هاتفه النقال. لم يكن لأخي أي نشاط سياسي أبداً في حياته، إنما هو مجرد شخص يقدم نفسه في الإعلام على أنه قارئ ومثقف إسلامي، وأصدقاؤه اليوم إما في السجن أو صامتون خوفاً من اعتقالهم".
ويقول الناشط الحقوقي والمعارض السعودي البارز المقيم في لندن يحيى عسيري لـ"العربي الجديد": "لا يمكن أن تلوم المثقفين أو الناس على سكوتهم، لأن ما يحدث اليوم في السعودية هو قمع رهيب، يُهدد به كل من يعبر عن رأيه بحرية، والظاهر للناس أن الإعلاميين الذين يسمح لهم النظام بالحديث، هم فقط الذين قبلوا بأن يكونوا أدوات له".