خرجَ على حذَرٍ عندما دَخَل نَهارُ بغداد
سُدفَتَهُ الأخيرة
آخر مَرَّةٍ يرى فيها بغدادَ رَجُلٌ حرٌّ
خَرَجَ، مَن كان يَندَهُ على بغداد
فَتَأتيه حافِية القَدَمَين
عُرياناً، حافِياً
آوى إلى حُفرَةٍ ونام فيها
سَلَّطوا الضَّوء عَليه
فَضَمَّ على رَأسه بِيَدَيهِ كَأَنّهُ أَحَدُ فُقَراءِ بغداد
ما اسمك؟ قالَ أنا بغداد
قالوا بغداد لم تَعُد لَك
لم يُقَيِّدوهُ، لم يُطلِقوا عَليه رصاصة واحِدة
أهالوا عَليهِ التُّراب وتأَكّدوا
أن بغداد قُتِلَت فيه
فَرِحَ بِموتِنا وفَرحنا وَرقَصنا لِموتِه
بغدادُ التي كانت، بَغدادُ التي لم تَعُد
هي الحكايَةُ في مثوى الحكاية
هي أرضٌ في نَفسها وفي غَيرها
هي بابل وآشور وأغاني السُمّار
هي أرض النّخل والمائين وشجرة السُّدرِ والنَّبَق العسلي
هي دَقّات سوق الصَفّاريين، وسُوق السَّراي
هي سَيِّدة الريح والمـَمالِك
■ ■ ■
قال القَنّاصُ
أنا ذاهب للعراق
قُلتُ
تَقصد الدخان
السماء الرمادية
رائحة الدّم المختلطة بالإسفلت
العراق الجُدبُ
المنازل التي فقدت أبوابها ونوافذها
رائحة الشوارع المُتعفنة
العجوز التي احتبت لحافاً
وجلست
تنتظر الموت لكنه لم يأت
بغداد مدينة تعيش بدون تفاصيل
وبدون ألوان
وَضَع القنّاصُ الخريطة
وسألَني
في أيِّ جِهَةٍ سَيُصَوِّب
لِيقتُلَ العراق
قلت تقصد الناس في العراق؟
قال العراق
صَمَتُّ
فقال سَأرمي في الجِهات الأربع
سأقتُل كُلَّ شيء يتحَرّك
سأقتُل الناس والزّرع والنّبت وَسعف النّخيل.
يغادر منزله
يَعتَصِرُ شَفتيه كأنّه يَبعث
حياة في وجَهٍ مّيت
يُقَبّل أولاده الجميلين!
وبعدها ماذا يحدث؟
يقتُل "الهمج"!
هكذا قال
قُلتُ
يَجب أن ترى خَصمك
يَجِب أن تُفكّر فيه كعدو
لم أسمع بطائر ماعدا الجوارح منها
استفاق صباحاً
وقَرّر قَتل شخص ما
أو لوحةٍ غادرت
مَتحَفاً لِتنهي حياة
فان غوخ قَتل نفسه
لكن لوحاته
لم تقتل أحداً
لم أسمع أن رقْصة فالس
قَتلت أحداً
سافر إلى هناك مع آخرين
سيركن في سطح أي بناية عالية
مُهمّته أن يرمي ولا يُخطئ
لايَقتُل بِيَديهِ
يَقتُلُ بِعَينَيه
العين تُقَرِّر ما نَفعَلُه بالآخرين
يموت القتيلُ في العين
وبَعدَها تَنطَلِق الرّصاصَة
فَتُصيبُ الجُثّة
ببساطة يموت من جَعَلته عَدُوُّكَ
لايصعد قتيلك إلى السماء
وحدهم الأنبياء يَصعدون إلى السّماء
يوضع عليه التراب
وبعد ذلك ماذا يحدث؟
لا يزوره الصّباح
لا يَحتفِل بالأعياد
لا ينام وحيدا أبداً
لا يَتكَلّم
لا يُبصِرُ
لا يصاب بمرض
لايحزن
لا يشرب القهوة في الصباح
ليست لَه مواعيد
لا يستفيق مُتعباً
لا يُعانق أحداً
لا يُقبّل أحداً
قُتِل، مات، لا يهم لن يَبحث عنه أحد
قُتِلَ في بَغداد وبغداد قُتِلَت فيه
لا اسمَ لَهُ
يَهيلون عليه التراب مع آخرين لا أسماء لهم
أمّا بغداد فَسَيِّدة الأسماء
وَقَفنا نَتَرَقَّبُ، نَنتظِرُ هكذا نحن الجياع،
حَلمنا بِغُزاةٍ طَيِّبِين، يُقدِّمون لنا خُبزاً وباقات وَردٍ
وَسَلّمنا أنّهم غزاة طيِّبون
أشرنا بأصابِعِنا إلى بَغداد
فَسَقطَت في التلفزيون، وفي الرّاديو
وانتَصرنا عليها نحن الجِياع
في بغداد
تَسقُطُ الأعمِدة الكهربائية
يَسقُطُ سَعفُ النَّخلِ
تَسقطُ العصافيرُ
تَسقطُ النوافذ والأبوابُ والحيطان
ولا تسقُط بغداد.
* شاعر مغربي مقيم في مدينة نيو أورليانز الأميركية