19 سبتمبر 2022
بغداد... قنبلة موقوتة
ثمّة تساؤلات، يحسن التفكير في الإجابة عنها بلا عواطف أو انحيازات، فالذي يمرّ به العراق من أحداثٍ ووقائع تعكس واقعهِ المزري الذي يعدّ نتاج حقبة تاريخية مضطربة جداً، ناهيكم عن أنه لم يشهد أيّة حالة مستقرّة من كلّ النواحي، فضلاً عن فقدان المجتمع بوصلته الوطنية الموحدة التي عاشَت قرابة قرن، فأينَ مصيره المجهول سيكون؟ يعترف الكلّ بأنّ العراق لم يتقدّم خطوةً واحدةً نحو الأمام، بل وليس جامداً في مكانهِ، بل هو يتراجع تراجعاً مخيفاً لم يشهده تاريخه، وقد قُضيَ على كلّ إنجازاته التي حقّقها الآباء في القرن العشرين. وهو اليوم يقترب من نيرانٍ غير التي ألفها ودمرته تدميراً، فقد خرجَ من الحرب العراقية الإيرانية متعباً، وخرج من حرب الخليج الثانية مدمرةً بنيتُه التحتية، وعاش حصاراً قاتلاً سنوات طوال، وعاش حرباً صعبة في العام 2003، أسفرت عن تغيير نظامه السياسي السابق باحتلالٍ أميركي سيئ الصيت ودمار ثقافي، قاد إلى قيام نظامٍ سياسي (جديد)، وفق مقاسات تمايزية، لا تنسجم وطبيعته الاجتماعية والسياسية، فلم ينجح أبداً، منذ 15 سنة، ضمن الأطر والمعايير المتناقضة غير المتوازية، إذ توالت الإخفاقات عليه، وتفكّكت أواصره مع اضمحلال بنيته الفوقية، وتشرد كفاءاته، وموت أبريائه، وكثرت تدخّلات الآخرين فيه، ما أحدث ظاهرة الإرهاب التي أوجدتها تناقضاته المريرة، والتي اشتركت في صنعها معظم دول الجوار، وأوجدت طبقة سياسيّة حاكمة غير مؤهلة، ولا كفوءة ولا مخلصة أبداً للعراق وأهله. وهيمنت على مقاليد الأمور أحزاب طائفيّة، وجماعات وصولية، بوصول ساسة أغبياء الى سدّة الحكم، فهزلت المؤسسات وعمّ الفساد في كلّ أرجاء البلاد، إلى جانب انسحاق المدن العراقية، إحداها تلو الأخرى، وفرار أهاليها، وخير دليل ما حدث للموصل قبل عام، وما يحدث للبصرة اليوم، وما سيتلوهما في بغداد، لا سمح الله.
الظروف الصعبة، والفوضى السياسية التي تضرب أطنابها على كلّ مساحات العراق،
وخصوصاً في العاصمة بغداد، تفيد كلّها بأن العراقيين في مأزق مصيري، لا يحسدون عليه أبداً، فهم غير قادرين على التفاهم في ما بينهم، والساسة غير مؤهلين كي يجدوا الحلول المناسبة، لا للمشكلات السياسية ولا الخدمية، لأنّ الطبقة السياسية المستحوذة على الحكم فاسدة كلّها بلا استثناء، ولم تصدُر أية عقوبات صارمة بحق المسؤولين الفاسدين، وغالبيتهم مطعون في أهليتهم وتاريخهم، إضافة إلى أنهم مجموعة دكاكين وجدت كي تبحث عن مصالحها الشخصية والفئوية، بعيداً عن المصلحة الوطنية العامة، وأنّ بعضهم أجراءٌ لهذه أو تلك من دول الإقليم. وعليه، فقد أصبح القرار بيد الآخرين، وخصوصاً إيران والولايات المتحدة. ولما كان الوضع بين الدولتين متجها نحو التشظّي في نوفمبر/ تشرين الثاني بتطبيق العقوبات الحقيقية على إيران، فانّ العراقَ بات في زقاق مسدود الأركان، والنار مشتعلة على بوابته، فأين المفر؟
ما يجري من مآسٍ في البصرة اليوم سيناريو مختلف عن تراجيدية الموصل منذ أعوام، واذا كانت الأخيرة قد سُحقت، فإنّ البصرةَ ستلحق بها، لأنّه لا يمكن معالجة مآسيها ضمن سياقات الحكم الحالي، والعاصمة بغداد تعيش ملهاة الصراع على السلطة بشكل مقزّز.. أيّة حلول لانبثاق سلطات رئاسية وتشريعية وتنفيذية ليست واضحة في الأفق حتى الآن، جرّاء المساومات، فكلّ طرف يعزف على هواه لضمان مصالحهِ، والصراع الداخلي لا يمكن التكهن بنهايته، جرّاء التقلّبات المفضوحة للساسة الذين انتخبوا في دورةٍ اعترف مسؤولون أنها مزوّرة، فكلّ ما سينتج عنها هو باطل. وإذا مارس بعضهم سياسة الحيّة الرقطاء، إذ يُظهر نفسه ضدّ الطائفية والمحاصصات، فهو كاذب، يبطن عكس ما يظهر، في حين يتّبع آخرون سياسة النعامة التي تخفي رأسها في الرمالِ، وسيقانها أشلاء عارية. وتجد المجرم في الأمس غدا حليفا لخصمه اليوم، وتجد من كان متظاهراً إرهابياً معتصماً في الأمس غدا اليوم مناضلاً ومجاهداً، والكلّ قد غسّل وجهه بفضلاته بلا حياء ولا أخلاق.
وهكذا، فالعراق في مستنقع سياسي آسن، تخلو أحزابه وتكتلاته من أيّة مبادئ وطنية، وتنعدم البرامج العملية عند جلّ القادة السياسيين. ويعجب المراقبون من تصريحاتٍ قوية ومثقلة بالتهديدات، تأتي من أقزام غدوا مراكز قوى، تفعل ما تشاء بلا أيّة ضوابط وأنظمة.. السلطة فاشلة لا تسمع منها إلا اللغو والأكاذيب، وثمّة مليشيات ودوائر حاكمة تتحرك بنفوذها بمعزلٍ عن السلطة الرسمية. تريد إيران العراق حديقة خلفية لها، باستخدام كلّ مصادره وتوظيفها من أجل مصالحها، وأميركا تشدّ وترخي، لكي تديم البوابة الشرقية لمصالحها الخاصة في الشرق كلّه.
ما شوهد من فصول تراجيدية مأساوية وكوميدية هزلية سنوات، وما حدث للعراقيين باسم الحفاظ على العمليّة السياسية، وعلى النظام السياسي (الجديد)، وما مرّ من سيناريوهات وانتهاكات مؤلمة على معظم أراضي العراق، وما صار إليه شعبه، يجعلنا نفكر بالمصير الخطير لهذا الشعب، من خلال ما سيحدث في بغداد التي تتجمّع فيها كلّ عوامل الانفجار. ولن يثور الشعب من تلقاءِ نفسهِ، لكنه ينتظر الفرصة السانحة والملائمة التي سيشنّع فيها إثر انفجار القنبلة الموقوتة، وحدوث الهيجان الكبير.. ولاتَ ساعة مندم. وفرص إشغال هذا الشعب، والضحك والكذب عليه، والتغرير به، موجودة إعلامياً، دينياً أو سياسياً. ولكن ما معنى أن تُسحق كلّ مدن العراق، وتبقى بغداد في مأمن من الانفجار؟ ما معنى النفخ في الصراعات الداخلية تارة، وإطفائها تارةً أخرى؟ ما معنى هذا اللّف والدوران بين العراقيين أنفسهم، وهم يدركون المحرك الأساسي لكلّ اللعبة؟ ما معنى انقسام الشيعة على أنفسهم اليوم؟ ما معنى هشاشة الساسة السنّة اليوم؟ ما معنى انقسام الكرد على أنفسهم اليوم؟ ما معنى الصراع اللاأخلاقي التافه من أجل الكتلة الكبرى (وليس الأكبر) وأهل العراق يعيشون فجائع ومحنا تاريخية لا توصف؟ ما معنى إصرار هؤلاء على توزيع المناصب؟ ما معنى عدم استقالة المسؤولين المقصّرين وعدم محاسبتهم على جرائمهم؟ ما معنى اندلاع حرائق هنا وهناك في العراق، وخصوصاً في بغداد؟ ما معنى استمرار فقدان الأمن والخدمات ووسائل العيش الكريم وقتل النسوة وإشاعة الفوضى القاتلة.. إلخ؟
لا يمكن لهؤلاء الذين يتصارعون على السلطة والنفوذ والمناصب أن يعالجوا مشكلات العراق أبداً. والحلّ واحد غير مدرك وصعب التحقيق حتى الآن، ولكن لا خيار للعراقيين جميعاً إلا
بوجود حكام ومسؤولين أقوياء، يتحمّلون مسؤولياتهم التاريخية، ويعرفون اختياراتهم بتخليص العراق من المستنقع الآسن الذي وقع فيه، وأن تكون لهم ركائزهم في التعامل مع الداخل الصعب، ومع الخارج الأصعب. وعلى العراقيين جميعا أن يدركوا أن هؤلاء المتصارعين على السلطة لا يصلحون أبدا لقيادة البلاد في مرحلتها الخطيرة اليوم. إن حكومة إنقاذ وطني لا يمكنها أن تتشكّل من هذه الطبقة السياسية الحالية، بل لا بدّ أن تنبثق هذه الحكومة في بغداد، بأيّة وسيلة كانت، ممثلة لإرادة الشعب، وتبدأ بإلغاء كلّ الأحزاب والتكتلات والمليشيات والعصابات وتجرّدها من السلاح، وإصدار قوانين إرجاع الحقوق المغتصبة للدولة والمجتمع من أجل القضاء على الفساد، وتطبيق عقوبات صارمة بحق المخالفين والأجراء والفاسدين، حكومة إنقاذ لها قوتها واستقلالية قراراتها، تنبثق بصلاحيات مركزية مؤقتة خلال طور انتقالي، إلى حين إجراء انتخابات عامة، وإصدار دستور مدني محترم، لائق بالعراق والعراقيين. لا مناص من ذلك، فهو الحلّ الوحيد للعراق إيقافاً للتدهور، وعسى أن يكون هذا الحلم واقعاً في يوم قريب، وينجلي الليل الطويل بانتهاء المهزلة.
الظروف الصعبة، والفوضى السياسية التي تضرب أطنابها على كلّ مساحات العراق،
ما يجري من مآسٍ في البصرة اليوم سيناريو مختلف عن تراجيدية الموصل منذ أعوام، واذا كانت الأخيرة قد سُحقت، فإنّ البصرةَ ستلحق بها، لأنّه لا يمكن معالجة مآسيها ضمن سياقات الحكم الحالي، والعاصمة بغداد تعيش ملهاة الصراع على السلطة بشكل مقزّز.. أيّة حلول لانبثاق سلطات رئاسية وتشريعية وتنفيذية ليست واضحة في الأفق حتى الآن، جرّاء المساومات، فكلّ طرف يعزف على هواه لضمان مصالحهِ، والصراع الداخلي لا يمكن التكهن بنهايته، جرّاء التقلّبات المفضوحة للساسة الذين انتخبوا في دورةٍ اعترف مسؤولون أنها مزوّرة، فكلّ ما سينتج عنها هو باطل. وإذا مارس بعضهم سياسة الحيّة الرقطاء، إذ يُظهر نفسه ضدّ الطائفية والمحاصصات، فهو كاذب، يبطن عكس ما يظهر، في حين يتّبع آخرون سياسة النعامة التي تخفي رأسها في الرمالِ، وسيقانها أشلاء عارية. وتجد المجرم في الأمس غدا حليفا لخصمه اليوم، وتجد من كان متظاهراً إرهابياً معتصماً في الأمس غدا اليوم مناضلاً ومجاهداً، والكلّ قد غسّل وجهه بفضلاته بلا حياء ولا أخلاق.
وهكذا، فالعراق في مستنقع سياسي آسن، تخلو أحزابه وتكتلاته من أيّة مبادئ وطنية، وتنعدم البرامج العملية عند جلّ القادة السياسيين. ويعجب المراقبون من تصريحاتٍ قوية ومثقلة بالتهديدات، تأتي من أقزام غدوا مراكز قوى، تفعل ما تشاء بلا أيّة ضوابط وأنظمة.. السلطة فاشلة لا تسمع منها إلا اللغو والأكاذيب، وثمّة مليشيات ودوائر حاكمة تتحرك بنفوذها بمعزلٍ عن السلطة الرسمية. تريد إيران العراق حديقة خلفية لها، باستخدام كلّ مصادره وتوظيفها من أجل مصالحها، وأميركا تشدّ وترخي، لكي تديم البوابة الشرقية لمصالحها الخاصة في الشرق كلّه.
ما شوهد من فصول تراجيدية مأساوية وكوميدية هزلية سنوات، وما حدث للعراقيين باسم الحفاظ على العمليّة السياسية، وعلى النظام السياسي (الجديد)، وما مرّ من سيناريوهات وانتهاكات مؤلمة على معظم أراضي العراق، وما صار إليه شعبه، يجعلنا نفكر بالمصير الخطير لهذا الشعب، من خلال ما سيحدث في بغداد التي تتجمّع فيها كلّ عوامل الانفجار. ولن يثور الشعب من تلقاءِ نفسهِ، لكنه ينتظر الفرصة السانحة والملائمة التي سيشنّع فيها إثر انفجار القنبلة الموقوتة، وحدوث الهيجان الكبير.. ولاتَ ساعة مندم. وفرص إشغال هذا الشعب، والضحك والكذب عليه، والتغرير به، موجودة إعلامياً، دينياً أو سياسياً. ولكن ما معنى أن تُسحق كلّ مدن العراق، وتبقى بغداد في مأمن من الانفجار؟ ما معنى النفخ في الصراعات الداخلية تارة، وإطفائها تارةً أخرى؟ ما معنى هذا اللّف والدوران بين العراقيين أنفسهم، وهم يدركون المحرك الأساسي لكلّ اللعبة؟ ما معنى انقسام الشيعة على أنفسهم اليوم؟ ما معنى هشاشة الساسة السنّة اليوم؟ ما معنى انقسام الكرد على أنفسهم اليوم؟ ما معنى الصراع اللاأخلاقي التافه من أجل الكتلة الكبرى (وليس الأكبر) وأهل العراق يعيشون فجائع ومحنا تاريخية لا توصف؟ ما معنى إصرار هؤلاء على توزيع المناصب؟ ما معنى عدم استقالة المسؤولين المقصّرين وعدم محاسبتهم على جرائمهم؟ ما معنى اندلاع حرائق هنا وهناك في العراق، وخصوصاً في بغداد؟ ما معنى استمرار فقدان الأمن والخدمات ووسائل العيش الكريم وقتل النسوة وإشاعة الفوضى القاتلة.. إلخ؟
لا يمكن لهؤلاء الذين يتصارعون على السلطة والنفوذ والمناصب أن يعالجوا مشكلات العراق أبداً. والحلّ واحد غير مدرك وصعب التحقيق حتى الآن، ولكن لا خيار للعراقيين جميعاً إلا