بلال تنوير.. نشيد إلى كاراتشي

26 ديسمبر 2014
تصوير: أورانجزيب حنيف
+ الخط -
"هل تأمّلتَ يوماً أثر اصطدام رصاصة في الزجاج الأمامي لسيارة؟ انطلاقاً من الثقب المركزي، تمتد شبكة واضحة ودقيقة مرصّعة بالبلورات الصغيرة. إنها استعارة جميلة لعالمي، لمدينتي، المفكّكة، الجميلة، المولودة من عنفٍ لا يُصدَّق".

هذا الاقتباس مُستقى من رواية الكاتب الباكستاني بلال تنوير، "لا نهاية للعالم"، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار Stock الباريسية؛ ويشكّل، بدوره، خير تلخيص (أو استعارة) للرواية نفسها التي تتألف من سلسلة نصوص مفككة، تؤلّف مجتمعةً نشيداً مؤثّراً لمدينة كاراتشي الباكستانية.

في هذه المدينة، ستتقاطع طُرُق كامراد، الشاعر الشيوعي العجوز الذي عانى كثيراً من الاضطهاد في الماضي، وصادق، الشاب الزقاقي الذي يضطلع بمهمة استعادة السيارات المسروقة، بجميع الوسائل، وسابنا وآبا، الفتاتين العاشقتين، والراوي الذي يتخفّى خلفه تنوير، وكثيرين غيرهم.

يربط جميع هذه الشخصيات ماضٍ مشترك، يجهله بعضهم؛ وفي الزمن الحاضر للسرد، يربطها انفجار سيارة مفخّخة ستمتد آثاره إلى جميع القصص المسرودة في الرواية. انفجارٌ سيشكّل صدى بعيداً بالنسبة إلى بعض الشخصيات، وحدثاً دموياً وقاتلاً لبعضها الآخر.

لعل هذا الانفجار، الذي سيدمّر حي "كانت ستايشِن" الشعبي، خيالي، لكنه يشبه، بل يستحضر إلى حد كبير واقع المدينة. ففي شباط/ فبراير الماضي، وقع انفجار في الحي المذكور أودى بحياة عشرة أشخاص، سبقه انفجار آخر، أكثر دموية، في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2012، في الحي نفسه. ولأنه ابن هذه المدينة، يضطلع الكاتب الثلاثيني في روايته بمهمة إعادة تشييد ما حطّمه الانفجار، بطريقة خيالية. ولأن حدثاً من هذا النوع مفيد من وجهة نظر روائية، لبناء صرح السرد، لا يمتنع تنوير عن اللجوء إليه واستثماره.

هكذا ستنبثق قصص الرواية، من ارتباطها بهذا الانفجار. ستنبثق على شكل أجزاء، شظايا، تماماً مثل طريقة تصوير المدينة. قصصٌ متوافرة بغزارة، يعمد الكاتب إلى التقاطها كما هي، كما تحضر، من دون أي ترتيب ظاهر. إنه سرّ حبكة تنوير الشيّقة.

"رأيتُ في الشارع شاباً وشابة في سيارة عالقة في زحمة خانقة، فذكّراني بقصة موعد مجهَض رواها لي صديق وجد نفسه عالقاً في زحمة مشابهة في حي "كانت ستايشِن"، حين أفلت منها كان على الفتاة المرافقة له الرجوع إلى منزلها". يشير هذا الاقتباس إلى موضوعٍ آخر يعالجه تنوير في روايته، ونقصد الصعوبات التي تعترض سبيل أي قصة حب في باكستان.

صعوبات تلخّصها الجملة التالية في النص: "لماذا يجب أن نتحمّل النظرات المواربة والابتسامات الحذرة حين نكون مع فتاة في السيارة؟". صعوبات تتحوّل أحياناً إلى اضطهاد حقيقي للحبيبين: "حين كنتُ في المدرسة، كنّا نقذف الحبر على العابرين من نوافذ باصِنا. كنا نستهدف خصوصاً الشيوخ والشبان والشابات الذين كنا نشتبه بأنهم يتحدّون المحظور للتلاقي في السر".

نقرأ في هذا النص قصصاً مجتزأة كثيرة من هذا النوع، تم تخليصها من جانبها العادي وإدراجها في سياقٍ مشوّق؛ قبل أن يحصل الانفجار ويقلب روتين الراوي الذي يعمل محرراً صحافياً. فبينما كان يجهد في وضع اللمسات الأخيرة على مقال حول مخزون النحاس غير المستثمَر في مقاطعة بلوشستان، كي يجلس بعد ذلك للاستمتاع بكأس شاي، خشبة خلاصه في نهاية دوام عمله؛ يرنّ الهاتف ويُطلب منه القدوم إلى المشرحة لتحديد هوية إحدى الجثث، التي سيتبيّن أنها لصادق، رفيقه في جميع الانتهاكات خلال فترة المراهقة. صادق الذي "كان يكره نفسه لأنه تحوّل إلى مجرم". ما سيدفع الراوي إلى استنتاج التالي: "مصير هذه القصص المجتزأة سيكون الضياع. سيُختصر هذا الجانب من المدينة، لكلّ منا، بالمكان الذي وقع فيه الانفجار. ستصير القنبلة الموقوتة قصة المدينة. وهكذا ستفلت المدينة منا".

وإعادة الإمساك بكاراتشي مشروعٌ ضخم، وبالضرورة مجتزأ: "كلما كنتُ أتقدّم في الكتابة، كلما كنتُ أستوعب بأن القصص الحقيقية لا وجود لها. فقط أجزاء القصص هي واقعية. ولذلك، كنتُ أكتب بواسطة الشذرات". لكن رواية "لا نهاية للعالم" ليست مجزّأة كلياً، وهو ليس عيباً فيها. فكما في ديوان قصص مواطنه دانييل محيي الدين، "فصل المانغا التي يتعذّر العثور عليها"، نجد لدى تنوير قوة السرد المشتَّت في ظاهره، البعيد عن الحبكات المشيّدة بدقة بالغة.

إضافة إلى ذلك، نلاحظ في نصّه تلاعباً في الزمن، واختلاط الذكريات والأحلام بقصة المدينة نفسها، ما يجعلنا نفكّر، بعيداً عن كاراتشي، بالكاتب الفرنسي باتريك موديانو، خصوصاً على مستوى النوستالجيا التي تجسّدها شخصية الأب التائهة، وأيضاً شخصية العم الشيوعي والشاعر؛ حنين لعالم مثقّف ومتسامح أضحى من الماضي.

 لكن المقارنة تتوقف عند هذا الحد، فكاراتشي ليست باريس. وبخلاف موديانو، يواجه تنوير عنفاً آنياً، يبتكر لسرده نبرةً موجِّهة، أو مباشرة وبسيطة، ذات مفاعيل ناجعة إلى أبعد حدود، كما حين يأمر قارئه: "تأمّل مرةً أخرى الزجاج الأمامي المصدّع للسيارة. يرسم أثر اصطدام الرصاصة به أرضية جديدة؛ يخطّ طرقات جديدة، حدوداً جديدة. إنها تصاميم مدينة مجهولة. تروي قصصاً أخرى. اصغٍ".

كما يبتكر أسلوباً فريداً باللغة الإنجليزية التي يكتب بها، يظهر فيه، وفقاً لبعض النقاد، أثر الأدب المعاصر للغته الأم، الأوردو، وفي الوقت نفسه، اللغة المحكية لسكّان كاراتشي، سكان من الطبقة المتوسطة التي ينتمي إليها، وأيضاً من الطبقات الشعبية الفقيرة، كالبائعين الجوّالين أو سائقي الباصات والشاحنات.

ولعل هذه الأسلوب الغني هو ما يفسّر نجاح الرواية، لدى صدورها في مطلع عام 2014، في البلدان الأنجلوفونية، وفي إنجلترا والولايات المتحدة خصوصاً، إلى جانب طريقة تشييدها الماهرة، بلمسات صغيرة، على شكل حكايات قصيرة متتابعة، لا يتدخّل الراوي فيها إلا في بضعة فصول، ولا تظهر كاراتشي فيها كمدينة عنفٍ وتطرّف ديني فقط، بل أيضاً كمكانٍ يقطنه ناس مليئون بالحياة، ونتعرّف فيه إلى قصص وطُرف مثيرة قد تبدو مبعثرة ولا رابط بينها في البداية، قبل أن تتقاطر جميعاً لتشكّل، في نهاية الرواية، كلاً مدهشاً في تماسكه.

باختصار، رواية على شكل مُرْبِكة (Puzzle)، ما يفسّر عنوانها الأصلي، "البعثرة هنا كبيرة جداً"، الذي يستحضر تبعثُر شظايا وشذرات أشياء، ناتجاً عن انفجار في حيّ مأهول، أو رصاصة في زجاج سيارة. كما يستحضر تلك الأقدار الفردية وأجزاء الذكريات التي يعيد الروائي لصقها بفوضى ظاهرة، مقصودة، كي يقول لنا: "لسنا سوى كسرات، شذرات، تماماً مثل قصصنا. القصص الحقيقية مجتزأة. كل ما هو أطوَل من ذلك كذبة، اختلاق".

المساهمون