بَلْبَلَةٌ. المصدر بَلْبَلَ. أحدث بلبلةً: تسبّب في ارتباك وتشويش وفوضى. ونحترف البلبلة. كثيرون يفعلون، بعض منهم عن قصد وبعض آخر عن غير قصد، من دون أن تُعَدّ الفئة الثانية معذورة. الجميع يتحمّل مسؤوليّة ما، فتبعات الجرم ليست طفيفة. نعم، البلبلة جرم وتستوجب بالتالي ملاحقة قانونيّة، فهي تُدرج في سياق إثارة القلاقل في البلاد.
قبل ثلاثة أسابيع، في الثامن عشر من ديسمبر/ كانون الأوّل من العام المنصرم، ضجّت وسائل الإعلام في لبنان، تلك التي تُصنَّف "نيو ميديا" والتقليديّة على حدّ سواء، بخبر وفاة طفل يُدعى محمد وهبي على باب مستشفى في مدينة طرابلس، شماليّ لبنان. من غير المسموح أن يلفظ طفل أنفاسه الأخيرة على باب مستشفى في القرن الواحد والعشرين، لأنّ أهله يعجزون عن تأمين تكلفة علاجه. أمر لا جدال فيه. فاستنفر الجميع، ولا سيّما ناشطون كثر على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وأُلبِست وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين في الشرق الأدنى (أونروا) تهمة التسبّب في وفاة الصغير، إلى جانب وزارة الصحة العامة في لبنان. الوكالة متّهمة إذ إنّه لاجئ فلسطينيّ، والوزارة متّهمة لأنّ المستشفى الذي قيل إنّه توفي على بابه حكوميّ. لم يكلّف أحد نفسه عناء الاتصال بأيّ من الجهتَين المتّهمتَين للاستفسار عمّا حدث، بل راحت تُؤجَّج مشاعر الغضب ويُحقَن الشارعان الفلسطينيّ في المخيّمات واللبنانيّ. أُقفِلَت طرقات في شمال البلاد، وتداعى ناشطون "ساخطون" إلى وقفات احتجاجيّة أبرزها أمام مقرّ أونروا في بيروت. ثمّ كانت المفاجأة... الصغير توفي على سرير في مستشفى طرابلس الحكوميّ وليس على بابه. هو كان يعاني حالة صحيّة حرجة، وقد خضع خلال الأشهر التي سبقت وفاته إلى عمليات جراحيّة وعلاجات مختلفة في عدد من المستشفيات الخاصة. إذاً، الخبر لا أساس له من الصحّة. القصد منه إثارة البلبلة. من نشره بداية؟ سؤال من دون إجابة. وما زال المسؤول الأوّل مجهول الهويّة.
قبل خمسة أيّام، في الثالث من يناير/ كانون الثاني الجاري، انتشر خبر توقيف رجل في مدينة طرابلس نفسها، بتهمة سرقة ربطتَي خبز وزجاجة مشروب غازيّ، وتغريمه مبلغ ثلاثمائة ألف ليرة لبنانيّة، أي ما يعادل مئتي دولار أميركيّ. وروى ناقلو الخبر بدقّة كيف قصدت زوجة المتّهم القاضي مصطحبة أطفالهما، ورجته أن يرحم ربّ الأسرة المعدومة، مؤكّدة أنّها لم تتمكّن من جمع المبلغ المطلوب كاملاً، حتى يُطلَق سراحه. أمام ذلك، لم يكن من القاضي إلا أن أعطى المرأة ما ينقصها من مال. فاستنفر الجميع، لا سيّما ناشطون كثر على مواقع التواصل الاجتماعيّ. ولُقّب الرجل بـ"جان فالجان"، بطل رواية "البؤساء" الشهيرة للكاتب الفرنسيّ فيكتور هوغو. ارتفعت حدّة التحريض: "يسرقون (رجال السياسة) البلد ولا يُحاسَبون، ومن يسرق خبزاً لإطعام أولاده الجياع يصير مجرماً!". ثمّ كانت المفاجأة... الرجل سارق درّاجة ناريّة.
الوقائع تكثر، ولا مجال لاستعراضها كلّها. أمّا المسؤولون الأوائل فيبقون مجهولي الهويّة. اكتشفناهم أم لم نفعل، أمر غير مهمّ... فجميعنا مسؤول. ويثبت تورّطنا أكثر في البلبلة.