02 نوفمبر 2024
بوادر انقلاب على الدستور في تونس
شهدت تونس مرحلة تأسيس دستوري صعبة، استغرقت ما لا يقل عن ثلاث سنوات من مرحلة الحكم الانتقالي، احتدم في أثنائها الجدل بين السياسيين والحقوقيين وممثلي المجتمع المدني حول محامل دستور الجمهورية الثانية، وبعد حلقات تفاعلية موسعة بين الحاكم والمحكوم، وبعد جلسات بين الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية داخل المجلس التأسيسي وخارجه، تمكن التونسيون من تفكيك الدستور القديم (دستور 1959) وصاغوا دستوراً وفاقياً جديداً (يناير/كانون ثاني 2014) يستجيب لتطلعات شعبٍ، يطمح إلى إقامة دولة تقدمية، تولي الاعتبار الأول لحقوق الإنسان، ولإقامة العدالة الاجتماعية وإرساء سلطة القانون ونظام المؤسسات المدنية. وكان المتوقع أن يعمل مجلس نواب الشعب والحكومة الوليدة بعد الانتخابات التشريعية (أكتوبر/تشرين أول 2014) على تطبيق الدستور وتفصيل مبادئه، وترجمة محامله إلى واقع يحياه الناس. لكن المتابع للأداء التشريعي للنواب وللحكومة الائتلافية على السواء يتبين صعود توجّه ميّال إلى الانزياح عن مضامين المدونة الدستورية. بتعطيلها حيناً، وتجاهلها حيناً آخر، والعمل على تجاوزها في أحيان أخرى. والأمثلة على ذلك كثيرة، خذ عدم التزام المجلس التشريعي بالآجال المنصوص عليها في الدستور في خصوص إحداث المجلس الأعلى للقضاء الذي كان يفترض بعثه في أجل أقصاه ستة أشهر من تاريخ انتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب.
وفي السياق نفسه، كان يفترض إحداث المحكمة الدستورية التي تتولى النظر في مدى دستورية القوانين سنة بعد الانتخابات التشريعية، وهو أمر لم يتحقق بعد. وبذلك، حقق النواب أول خرق صريح لأحكام الدستور. وبدا جلياً من متابعة مداولات المجلس بخصوص مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء اعتراض عدد مهم من النواب على مبدأ الاستقلالية المطلقة للقضاء التي نص عليها الدستور، وسعيهم إلى تمكين وزير العدل من صلاحيات واسعة، تخول له التدخل في إدارة القضاء، وجدّت لجنة التشريع العام في الدفاع عن تنقيح الدستور على نحوٍ، يسمح بالحدّ من استقلالية المؤسسة القضائية، غير أن الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين رفضت ذلك المقترح التشريعي، وهو ما يخبر بسعي أطراف نافذة داخل المجلس وخارجه إلى إخضاع القضاء وجعله رهينة لدى السلطة التنفيذية، ما يؤثر سلباً على أداء القاضي، وعلى مسار العدالة المنشودة في البلاد.
وفي سياق الارتداد عن دستور الثورة، عمدت الحكومة، بتنسيق مع رئاسة مجلس نواب الشعب، إلى سحب مشروع قانونين مهمين، كانا سيساهمان في تنزيل البعد الحقوقي/التقدمي للدستور الجديد في الواقع، ومشروع القانون الأساسي الأول متعلق بحقّ النفاذ إلى المعلومة الذي يضمن للمواطن عموماً، وللباحث والإعلامي خصوصاً، حق اجتناء المعلومات، والوصول إلى الخبر والتحقيق فيه، وحق النفاذ إلى القواعد المعلوماتية الحكومية عند الضرورة لكشف الحقيقة، ولترسيخ أسباب الشفافية، غير أنه سرعان ما تم الالتفاف على هذا القانون، وجرى وأده قبل أن يرى النور، على نحو شعر معه حقوقيون كثيرون بالاستياء، ورأى فيه مواطنون كثيرون محاولة للنكوص عن الدستور الذي جاء واعداً بتيسير سبل الوصول إلى المعلومة، وضمان حماية الباحثين والصحفيين والإعلاميين، غير أن ذلك الوعد لم يتحول إلى حقيقة، بسبب خشية متنفذين من أن تؤدي الشفافية إلى فتح ملفات التعذيب والفساد وتبييض الأموال، وغير ذلك من المواضيع/"التابوهات" في تونس، قبل الثورة وبعدها.
أما مشروع القانون الثاني الذي سحبته الحكومة ورئاسة مجلس نواب الشعب، فيتعلق بتنقيح مجلة الإجراءات الجزائية وإتمامها. وعلّل وزير العدل، محمد صالح بن عيسى، طلبه بسحب المشروع بالحاجة إلى مزيد من التدقيق والتعمق في هذا النص القانوني، في مختلف جوانبه، خصوصاً ما تعلق منها بضمانات المحتفظ به في مراكز الأمن، وما اتصل بحضور المحامي منذ الساعات الأولى لإيقاف المشتبه به. والظاهر أن ما تضمنته المجلّة الجزائية الجديدة التي تم سحبها، من تنصيص على حقوق المشتبه به، وفي مقدمتها مواكبة المحامي مسار التحقيق معه، منذ البداية في مخافر الشرطة، والتخفيض في مدة الاحتفاظ به من ثلاثة أيام قابلة للتمديد مرة واحدة إلى 48 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة، بقرار معلل من السلطة القضائية. الظاهر أن هذه الضمانات الخادمة لحق المواطن في محاكمة نزيهة عادلة لم ترُق للسلطة التنفيذية التي رأت ضرورة سحب المجلة الجزائية المقترحة ومراجعتها، قصد مزيد من التضييق على المواطن المشتبه به، والحدّ من حقوقه المدنية.
وفي مقابل رفض مشاريع القوانين التقدمية، أو التردد في تمريرها. صدّق مجلس نواب الشعب على قانون مكافحة الإرهاب الذي يفرض قيوداً على الحريات العامة والخاصة، ويقدم المطلب الأمني الحقوقي، ويناقض روح الدستور التونسي ومبادئه المشرعة للحرية والكرامة والعدالة والشفافية. ويعتبر ما يسمى قانون المصالحة الاقتصادية شكلاً آخر من أشكال اختراق الدستور، ومحاولة للقيام بديلاً عنه، بالتأسيس "لعدالة موازية"، تتنكر لمشروع العدالة الانتقالية المنصوص عليه دستورياً، والمراد التطبيع مع "لوبيات" الفساد المالي والإداري، وتمكينهم من الإفلات من العقاب على كيف ما.
والواقع أن بوادر الانقلاب على الدستور هذه دالة على رغبة بعضهم في النكوص عن الثورة ومنجزاتها من ناحية، ومخبرة بسعي حثيث لدى بعض الأطراف، لإجهاض مسار العدالة والدمقرطة في البلاد. ويخشى أغلب التونسيين، اليوم، من أن يتحول الدستور الذي بذلوا في سبيله أموالهم، وجهدهم، ووقتهم ودماء أبنائهم، وفاخروا به الأمم، يخشون من أن يتحول، بالتدريج، إلى أثر متحفٍّ، أو منجز ديكوري، يتباهى به الحكام في المناسبات، ويهملون إجراءه في الواقع، فتبقى فصول الدستور حبراً على ورق، وتكفّ عن كونها ضامناً للحريات والانتقال الديمقراطي، لتصبح مجرّد عمل وطني عابر، بل مجرّد حلم جميل دهسته قوى الشدّ إلى الوراء.
وفي السياق نفسه، كان يفترض إحداث المحكمة الدستورية التي تتولى النظر في مدى دستورية القوانين سنة بعد الانتخابات التشريعية، وهو أمر لم يتحقق بعد. وبذلك، حقق النواب أول خرق صريح لأحكام الدستور. وبدا جلياً من متابعة مداولات المجلس بخصوص مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء اعتراض عدد مهم من النواب على مبدأ الاستقلالية المطلقة للقضاء التي نص عليها الدستور، وسعيهم إلى تمكين وزير العدل من صلاحيات واسعة، تخول له التدخل في إدارة القضاء، وجدّت لجنة التشريع العام في الدفاع عن تنقيح الدستور على نحوٍ، يسمح بالحدّ من استقلالية المؤسسة القضائية، غير أن الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين رفضت ذلك المقترح التشريعي، وهو ما يخبر بسعي أطراف نافذة داخل المجلس وخارجه إلى إخضاع القضاء وجعله رهينة لدى السلطة التنفيذية، ما يؤثر سلباً على أداء القاضي، وعلى مسار العدالة المنشودة في البلاد.
وفي سياق الارتداد عن دستور الثورة، عمدت الحكومة، بتنسيق مع رئاسة مجلس نواب الشعب، إلى سحب مشروع قانونين مهمين، كانا سيساهمان في تنزيل البعد الحقوقي/التقدمي للدستور الجديد في الواقع، ومشروع القانون الأساسي الأول متعلق بحقّ النفاذ إلى المعلومة الذي يضمن للمواطن عموماً، وللباحث والإعلامي خصوصاً، حق اجتناء المعلومات، والوصول إلى الخبر والتحقيق فيه، وحق النفاذ إلى القواعد المعلوماتية الحكومية عند الضرورة لكشف الحقيقة، ولترسيخ أسباب الشفافية، غير أنه سرعان ما تم الالتفاف على هذا القانون، وجرى وأده قبل أن يرى النور، على نحو شعر معه حقوقيون كثيرون بالاستياء، ورأى فيه مواطنون كثيرون محاولة للنكوص عن الدستور الذي جاء واعداً بتيسير سبل الوصول إلى المعلومة، وضمان حماية الباحثين والصحفيين والإعلاميين، غير أن ذلك الوعد لم يتحول إلى حقيقة، بسبب خشية متنفذين من أن تؤدي الشفافية إلى فتح ملفات التعذيب والفساد وتبييض الأموال، وغير ذلك من المواضيع/"التابوهات" في تونس، قبل الثورة وبعدها.
أما مشروع القانون الثاني الذي سحبته الحكومة ورئاسة مجلس نواب الشعب، فيتعلق بتنقيح مجلة الإجراءات الجزائية وإتمامها. وعلّل وزير العدل، محمد صالح بن عيسى، طلبه بسحب المشروع بالحاجة إلى مزيد من التدقيق والتعمق في هذا النص القانوني، في مختلف جوانبه، خصوصاً ما تعلق منها بضمانات المحتفظ به في مراكز الأمن، وما اتصل بحضور المحامي منذ الساعات الأولى لإيقاف المشتبه به. والظاهر أن ما تضمنته المجلّة الجزائية الجديدة التي تم سحبها، من تنصيص على حقوق المشتبه به، وفي مقدمتها مواكبة المحامي مسار التحقيق معه، منذ البداية في مخافر الشرطة، والتخفيض في مدة الاحتفاظ به من ثلاثة أيام قابلة للتمديد مرة واحدة إلى 48 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة، بقرار معلل من السلطة القضائية. الظاهر أن هذه الضمانات الخادمة لحق المواطن في محاكمة نزيهة عادلة لم ترُق للسلطة التنفيذية التي رأت ضرورة سحب المجلة الجزائية المقترحة ومراجعتها، قصد مزيد من التضييق على المواطن المشتبه به، والحدّ من حقوقه المدنية.
وفي مقابل رفض مشاريع القوانين التقدمية، أو التردد في تمريرها. صدّق مجلس نواب الشعب على قانون مكافحة الإرهاب الذي يفرض قيوداً على الحريات العامة والخاصة، ويقدم المطلب الأمني الحقوقي، ويناقض روح الدستور التونسي ومبادئه المشرعة للحرية والكرامة والعدالة والشفافية. ويعتبر ما يسمى قانون المصالحة الاقتصادية شكلاً آخر من أشكال اختراق الدستور، ومحاولة للقيام بديلاً عنه، بالتأسيس "لعدالة موازية"، تتنكر لمشروع العدالة الانتقالية المنصوص عليه دستورياً، والمراد التطبيع مع "لوبيات" الفساد المالي والإداري، وتمكينهم من الإفلات من العقاب على كيف ما.
والواقع أن بوادر الانقلاب على الدستور هذه دالة على رغبة بعضهم في النكوص عن الثورة ومنجزاتها من ناحية، ومخبرة بسعي حثيث لدى بعض الأطراف، لإجهاض مسار العدالة والدمقرطة في البلاد. ويخشى أغلب التونسيين، اليوم، من أن يتحول الدستور الذي بذلوا في سبيله أموالهم، وجهدهم، ووقتهم ودماء أبنائهم، وفاخروا به الأمم، يخشون من أن يتحول، بالتدريج، إلى أثر متحفٍّ، أو منجز ديكوري، يتباهى به الحكام في المناسبات، ويهملون إجراءه في الواقع، فتبقى فصول الدستور حبراً على ورق، وتكفّ عن كونها ضامناً للحريات والانتقال الديمقراطي، لتصبح مجرّد عمل وطني عابر، بل مجرّد حلم جميل دهسته قوى الشدّ إلى الوراء.