"الغاز" و"عدم نكوص الغرب وأوكرانيا عن اتفاق مينسك"، مسألتان شغلتا المرتبة الأولى من اهتمام الدبلوماسية الروسية في قمة "آسيا أوروبا" (آسيم) التي عُقدت في مدينة ميلانو الإيطالية، وتأخر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الوصول إليها، قادماً من احتفال العاصمة الصربية بلغراد في الذكرى السبعين لتحريرها من احتلال قوات ألمانيا النازية، مكسباً زيارته بُعداً رمزياً، تحتاج إليه موسكو اليوم، وهو ألا تنسى أوروبا ضريبة العداء، كما لا تنسى روسيا ما فعله الغرب بصربيا، خارج الشرعية الدولية.
بدأ بوتين رحلته إلى ميلانو من بلغراد عاصمة صربيا. وقد شكّلت زيارته تلك، خطوة رمزية من حيث الشكل والمضمون، حيث حضر عرضاً عسكرياً بمناسبة الذكرى الـ70 لتحرير العاصمة الصربية من الاحتلال النازي. وأجرى هناك مباحثات مع القيادة الصربية، دار الحديث خلالها عن علاقات الصداقة بين البلدين، ومسائل الطاقة. ونقلت وسائل الإعلام الروسية عنه قوله "لقد ساندنا صربيا ومستمرون بمساندتها مستقبلاً. صداقة روسيا وصربيا لا تحتاج لإثبات".
ولم يفت الرئيس الروسي أن يذكّر الأوروبيين بخطورة عودة "النازية"، فقال لصحيفة "بوليتيكا" الصربية "للأسف إن اللقاح ضد فيروس النازية الذي تم تطويره في نورنبرغ، بدأ يفقد فاعليته في بعض الدول الأوروبية". وأضاف أن "على شركائنا أن يدركوا بدقة أن محاولات الضغط على روسيا عن طريق عقوبات غير شرعية وخطوات أحادية الجانب لا تخدم التقارب، إنما تُعقّد الحوار".
وفي سياق أفق العلاقات مع الولايات المتحدة، قال: "لطالما نزعنا إلى علاقات شراكة منفتحة مع الولايات المتحدة، ولكننا حصلنا عوضاً عن ذلك على إدانات مختلفة ومحاولات تدخّل في شؤوننا الداخلية. فالرئيس (الأميركي) باراك أوباما، من على منبر مجلس الأمن الدولي، جعل من العدوان الروسي على أوكرانيا، بحسب قوله، ثالث أخطر التهديدات التي تتعرض لها الإنسانية في الوقت الراهن، إلى جانب فيروس ايبولا المميت، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي".
وذكّر بالعقوبات الغربية المفروضة على روسيا، مؤكداً صعوبة فهمها خارج إطار العدوانية، قائلاً إنه "من الصعب وصف مثل هذا المنهج إلا بالعدوانية. ففي الولايات المتحدة، وصلوا إلى دعوات صاخبة لوقف التعاون معنا حتى في تطوير الفضاء وفي مجال الطاقة الذرية، وقاموا بتجميد اللجنة الرئاسية الروسية ـ الأميركية، المشكّلة عام 2009، بما في ذلك مهمتها المتمثلة بمكافحة الإرهاب والاتجار بالمخدرات".
لم يتأخر الرئيس الروسي عن افتتاح قمة "آسيم" فقط، إنما تأخر أيضاً على لقائه الثنائي المقرر مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إلا أن اللقاء تمّ على الرغم من إعلان إلغائه، ولكن في وقت متأخر عن موعده المحدد.
وعن نتائج اللقاء، قال مدير المكتب الصحافي الرئاسي ديمتري بيسكوف، إن "الخلافات الجدية في وجهات النظر تستمر كما في السابق حول النزاع الأوكراني". ولكنه أعلن أن النقاش حول المسألة الأوكرانية سيستمر، في قمة ميلانو، وبحضور ميركل وبوتين وزعماء آخرين، وذلك ما كان.
وبالفعل، فقد عُقد فطور عمل في 17 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، تمّت خلاله مناقشة تسوية النزاع في جنوب شرق أوكرانيا، شارك فيه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، ونظيره الإيطالي ماثيو رينزي، وميركل، والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، ورئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروزو.
ووفقاً لوكالة "إنترفاكس" الروسية، فقد قال بيسكوف إن "المشاركين في فطور ميلانو، أظهروا رغبة كاملة في فهم الحالة الواقعية لوضع جنوب شرق أوكرانيا". ولكنه اعتذر عن ذكر أسماء الزعماء الذين حافظوا على تشددهم حيال المسألة الأوكرانية.
ولما كانت المسألة الأوكرانية بالنسبة لأوروبا، مسألة طاقة أيضاً، خصوصاً أن الثلج أرسل أولى رسائله من موسكو، فقد شغلت مفاوضات الغاز حيزاً هاماً من المفاوضات. كما ناقشت "رباعية النورماندي" (روسيا وفرنسا وألمانيا وأوكرانيا) موضوع الغاز، بعد مناقشته عشية ذلك بين بوتين وميركل أثناء لقائهما الثنائي.
وذكرت وكالة "تاس" أنه جرى وراء الأبواب المغلقة، لقاء ثنائي بين بوتين ونظيره الأوكراني بترو بوروشينكو. وتبعاً لكلام بيسكوف، فإن بوتين "رسم بالقلم مباشرة على الورق الوضع في أوكرانيا" للزعماء الأوروبيين. وحين سئل الرئيس الروسي كيف يصف نتائج مباحثاته مع الزعماء الأوروبيين، أجاب "جيدة".
يشار إلى أن الوفد الروسي ضمّ أيضاً وزير الخارجية سيرغي لافروف، الذي ناب عن الرئيس في جلسة افتتاح "آسيم"، ووزير الطاقة ألكسندر نوفاك ورئيس "غاز بروم" أليكسي ميللر.
استطاع الجانبان الروسي والأوكراني التوصل لاتفاق مرضٍ حول الغاز، إذ نقلت وكالة "ريا نوفوستي" عن بوتين قوله، في قمة "آسيم": "روسيا لن تزود أوكرانيا بالغاز بالدين"، وفقاً لما تم الاتفاق عليه.
كما نقلت عن وزير الطاقة ألكسندر نوفاك، قوله "وافقت أوكرانيا على تسديد ثمن الغاز بسعر 385 دولاراً للألف متر مكعب. وفي إطار الحلول الوسط، وافقت أيضاً على تسديد مسبق لثمن الغاز، كما اتفق الطرفان الروسي والأوكراني، مبدئياً، على جدول لتسديد ديون الغاز" المترتبة على أوكرانيا لروسيا.
وقد تم الاتفاق المشار إليه أعلاه، على خلفية تفهّم موسكو للعجز المالي الذي تعانيه كييف، خصوصاً بعد استنفاد خزينتها في حربها مع جنوب شرقي البلاد الانفصالي. فقد نقلت وكالة "تاس" عن بوتين قوله: "إننا نفهم وضع شركائنا الأوكرانيين المالي، ونرى أن لديهم مشكلة، ولقد خطونا خطوة باتجاههم في مجال تسديد الديون المترتبة على الغاز السابق، ونأمل أن يقوم شركاؤنا في المفوضية الأوروبية بتقديم المساندة لأوكرانيا في تجاوز عجزها المالي".
إلى ذلك، فقد كان من المهم لموسكو الاطمئنان إلى عدم تصعيد المواجهة العسكرية في جنوب شرقي أوكرانيا، وبالتالي عدم إدخالها في حلقة جديدة من الاتهامات، وكان لها تعهد من الرئيس الأوكراني بالالتزام ببنود اتفاق مينسك، إذ نقلت وكالة "إنترفاكس" عن بوروشينكو قوله إن "الطرفين مستمران في تنفيذ اتفاق مينسك، ويؤكدان بذل الجهود لتنفيذ جميع بنوده الـ12".