بيدها إسرائيل تجدع أنفها

28 ابريل 2020

إسرائيليون في تل أبيب يحتشدون ضد الحكومة (25/3/2020/فرانس برس)

+ الخط -
الميزة النسبية التي فاخرت بها إسرائيل طويلاً، وسوّقتها بنجاح لافت، وتاهت بها كثيراً، ولا سيما على العالم العربي، كانت ماثلةً في أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في صحراء الشرق الأوسط، بدأت هذه الميزة أخيرا في التآكل التدرجي، وآلت إلى مسخرة كاملة الأوصاف، في الدولة الوحيدة التي تحتفل رسمياً بعيد المساخر (بوريم) كل عام، وذلك على وقع ما يجري في هذه الآونة من مساوماتٍ وضيعةٍ بين الضباع والذئاب، وتعديلات قوانين أساس لشرعنة الفساد، وانتهاكاتٍ بالجملة لقواعد اللعبة الديمقراطية هذه، على طول الطريق المفضي إلى تأليف حكومة جديدة، برئاسة متهم بثلاثة ملفات جنائية.
بعد ثلاث جولات انتخابات عامة في غضون عام واحد، وما أفرزته من حالة استعصاء شديد قد لا تحله جولة رابعة، وفي ظل وباءٍ وحجْر منزلي وإغلاقٍ وبطالة وأزمة اقتصادية عميقة، تهاوت في وضح النهار كل تلك المسائل المبدئية، المُثل والمزاعم القيمية، والادّعاءات الأخلاقية، التي أنتجت صورة ديمقراطية إسرائيلية خادعة، كادت تغطّي على جرائم الاحتلال والاستيطان والتمييز العنصري، وتضلل الرأي العام الذي كثيراً ما أظهر انبهاره بذلك المشهد الخلّبي، المقتصر على المجتمع اليهودي وحده، وأسبل عيونه الواسعة عن الفظائع الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
على مدى الأسابيع القليلة الماضية، حدثت سلسلة من الهرولات، وحالات فرارٍ من النقيض إلى النقيض، بلا خجل أو شعور بالعار، وجرت عمليات إعادة تموضعٍ شائنة، على أرضية ذلك المشهد الديمقراطي المزعوم، فضلاً عن سرقات مقاعد وأصوات ناخبين بلا حياء، كما وقعت جملةٌ من الخيانات والتقلبات في الخريطة الحزبية الإسرائيلية، وتم خرق القواعد والمبادئ والتعهدات والخطوط الحمراء، إلى حدٍّ تحوّل فيه الخصم اللئيم إلى حليفٍ عتيد، وتفكّكت معه القوائم الانتخابية والتحالفات، وتلاشت الفوارق بين ما عُرف بأحزاب اليمين والوسط واليسار، فيما يتم الآن وضع رقبة القضاء بين يدي مطلوبٍ للمحاكمة بعد أيام، وتوزيع المناصب والمغانم والأموال بين سائر الأوغاد.
في هذا الخضم من الانهيارات القيمية التي غشيت المجتمع العبري، ومع تتابع كل هذه المباذل والسقطات التي لا سابق لها حتى في أعتى الدول الأوتوقراطية، يبدو الملعب السياسي الإسرائيلي، في هذه الأثناء، تحت أضواء كاشفة، حيث يتبادل فيه فريق واحد لا منافس له في هذه اللعبة الماجنة، كرة قدم بالية، ثقيلة وقليلة الهواء، يتقاذفها هواةٌ وأغرار في الكار، أمام بصر حَكَم حدّد نتيجة المباراة قبل أن تبدأ، واختار أسماء الفائزين بالميداليات مسبقاً، وسط انغلاق حسٍّ مطبق، عماء بصيرة، وظواهر تعب وحالت ملل، من جانب جمهور نال منه التخويف والتهويل وتفشّي الوباء، وفقد مبرّرات ادّعاء الفخر بديمقراطيةٍ بات يُفصّل ثوبها على مقاس أول حكومة في العالم برأسين متربصين ببعضها بعضاً.
ومن غير أن نستعجل النتيجة النهائية لهذه اللعبة المكيافيلية، في دولة المساخر والسخافات والأبارتايد، لنا من الآن، ومن غير حرجٍ لا مبرّر له، أن نشمت علناً بهذا المآل الذي طال مطاله، واستعصى على كثيرين بيننا فهم أحابيله، خصوصاً ونحن نرى بأم العين، وبعد لأيٍ شديد، انقشاع هذه الغمامة السوداء عن سمائنا، وتهتّك تلك الغلالة التي غشيت أبصار الناظرين إلى الديمقراطية الإسرائيلية عن بعد، فانبهروا بها كثيراً، وكادوا يُؤخذون بدوي طبْلها المحشو بالأكاذيب والترّهات التي عجّلت في كشف أمر هذه الخزعبلات الجارية على قدم وساق، في دولةٍ بدأت تجدع أنفها بيدها على رؤوس الأشهاد.
كانت الديمقراطية والجيش معاً مصدري فخر آخر دولة احتلال على وجه الأرض، ومنبعي قوة ذاتية لها من دون مراء. وفيما شكلت الأولى ميزةً نسبية لعدوّ كنا نحسده على هذه الخاصية التي تتمتع بها الديمقراطيات الغربية، قبل أن يذوب الثلج، ها هو الجيش الذي شاع لدينا ردحاً من الزمن شعورٌ ممضّ بأنه لا يقهر، يفقد قوة الردع المطلق، يخسر بساديته المفرطة معركة الصورة، ويقف بعدّته وعديده عاجزاً عن حسم الصراع التاريخي بالحديد والنار، بدليل كل هذا الصمود الأسطوري تحت أقسى الظروف، واستمرار هذه المقاومة الباسلة بكل الأشكال الممكنة، لشعبٍ لديه إرادةٌ لم تلن، وروحٌ لم تنكسر، وحبٍّ شديد للحياة.
دلالات
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي