بيروت (حسين بيضون)
17 اغسطس 2020
+ الخط -

يمكنك تمييز تلك البيوت عن غيرها بسهولة. المعماري اللبناني رهيف فياض، يسمّي جزءاً منها "ذو الأقواس الثلاث". أحياناً يستفيض بشرح أصلها وفصلها، وعلاقتها بنشأة البورجوازية اللبنانية وتطورها، وأحياناً يعود إلى جذورها في الضفة الأخرى من المتوسط. الجزء الآخر من المباني التراثية، بالنسبة لغير الدارسين، مثل الجزء الأول، يحتاج إلى تعريف وشروحات.

لكن ما يتفق اللبنانيون عليه، أو الذين يعرفون القليل من الهوية العمرانية للبنان، أنه جزء من التراث. يعرفون هذه البيوت بمجرد النظر إليها. يشترون الحنين، ويصدّقون أن بيروت تملك تاريخاً. يقنعون أنفسهم بأن هذه المباني تجاوزت الحرب، لكي تحافظ المدينة على تاريخ مواز للعنف وضدّه.

في 4 آب/ أغسطس، ضُرِبت المدينة. تشوهت مبانيها الواقفة للدفاع عنها. جزء منها سقط، جزء آخر تساقط. من البداية عند مدخل "شارع غورو"، وصولاً إلى آخر مار مخايل، حيث النسبة الكبرى من المباني التراثية، كل شيء تهاوى. حسب الإحصاءات الأولية للمديرية العامة للآثار، النسبة الساحقة تضررت. بالإضافة إلى الأضرار الكبيرة في مباني الأشرفية وفي محيط "دائرة بيروت الثانية"، أي الصيفي ـ المدور ـ الرميل، نتحدث عن شارعين أساسيين، يعجان بالحياة في النهار، وبجرعات إضافية منها في الليل. 

وأنت تتجول في الجمّيزة ومار مخايل، الشارعين الأكثر تضرراً في بيروت بعد تفجير المرفأ، ستلم بعينيك زجاجاً منثوراً على الأرض، تساقط من نوافذ البيوت ومن بين القناطر الطويلة التي تشبه الأقواس، وتتكاتف بعضها مع بعض لتشكّل واجهة المنزل. وقد لا تجد أدراجاً تأخذها إلى المنزل، لأنها تدمرت قبله، أو بدونه.

كل منزل تدمر على نحو مختلف. في الأصل، تلك الأدراج بنيت لمنع وصول المياه المتجمعة إلى الغرف. ذلك أن البيوت بنيت قبل الطريق نفسها. كانت ضيقة في شكلها، لكن أكثر اتساقاً مع المكان. الحدائق اختفت أيضاً. البلاط الملّون الذي لم يعد موجوداً تبعثر في الأرجاء. في الداخل، انهارت السقوف المرتفعة، وفي أكثر من منزل من هذه المنازل، صارت الغرف الواسعة مفتوحة على كل الاحتمالات. تطل فقط على سقفها الأخير: السماء.

من يجمع "الداتا"؟
الجميع في شارع الجمّيزة، من السكان والقادمين للمساعدة، يتحدث عن إعادة الإعمار، عن البقاء والصمود. عن النهوض، وعن الدفاع عن المدينة، وعن تاريخها. يتحدثون بنبرة عالية، أحياناً يشوبها القلق، وأحياناً تبدو واثقة. ولكنها قد تكون رهبة المكان، وربما يكون التهيّب من صلافة الخراب.

التصريحات الرسمية جاهزة مثل بيان استقالة الحكومة: "سنعيد إعمار بيروت". كما حدث عندما انتهت الحرب، أو عندما أعلن عن نهايتها، الجميع متحمس. بلدية بيروت، نقابتا المهندسين والمقاولين، جمعيات المجتمع المدني. هناك لجان صارت جاهزة، وشركات بدأت "مسوحات” لحسابها الخاص. هناك تجارب قديمة تلوح في الأفق. وهناك الصحافيون الذين يبحثون عن خبر إضافة، والسماسرة الذين يبحثون عن أرقام. لكن، ليسوا وحدهم. هناك السكان الذين يبحثون عن ماضيهم في الركام، وعن مستقبلهم بعده. ثمة من سبقهم: جمع "الداتا" والمعلومات بالتفاصيل في المنطقتين يحدث على قدم وساق. ليس الجميع مهتماً بإنقاذ التراث، حتى وإن كان الجميع يصرّح بذلك. ما الذي يقوله السكان والمهندسون عن "إعادة الإعمار"؟

بيروت (حسين بيضون)
قدرت "يونسكو" عدد المباني التراثية المتضررة بـ640 (حسين بيضون)

المهندسة المعمارية والمخططة المدينية سوسن سعد، تبدأ من النهاية: "إعادة الإعمار لا تعني بالضرورة تكريسا للتراث". ورغم أنها تنفق أكثر من 12 ساعة في العمل خلف الأنقاض، وتدخل بيوتاً مخلعة لتحسس ما تبقى من أعمارها، إلا أنَّها لا تشعر بالتفاؤل: "حتى لو كان الترميم وفقاً للأصول، وهذا في أحسن الحالات، سنفقد جزءاً كبيراً من التراث".

بالنسبة إليها، الحديث عن الترميم وإعادة الإعمار مبكر جداً، لأنه في حالة المناطق التراثية أو المباني التي اكتسبت بفعل الزمن قيمة ثقافية أو تاريخية، يحتاج الأمر إلى دراسات معمقة جداً، وهذا يستغرق سنتين في أقل تقدير. كما أن هذه الدراسات، وقبل أن تتخذ طابعاً بنيوياً، تأخذ السوسيولوجيا والاقتصاد والديموغرافيا والعوامل الأخرى بالاعتبار، وعلى مستوى العمارة تحديداً، لا يمكنها أن تكون دراسات عن مبنى واحد، بل على مستوى النسيج العمراني بأسره، والأحياء من دون نقصان.

ليس هذا ما يحدث فعلاً على الأرض. وبعد أكثر من جولة، يتضح من بين أشياء كثيرة، أن شائعة السماسرة القادمين من مواقع نفوذ في الدولة، تعود إلى أكثر من ثلاثين عاماً، أكثر من شائعة. يتضح أن جزءاً من أصحاب البيوت يتعاملون مع الإعمار كما لو أنه مسألة "خاصة"، وليس موضوعا عاما.

المفارقة أن هذا يشبه تحول الدولة اللبنانية نفسها إلى ملك خاص، لمجموعة سياسيين، لديهم زبائن طائفيين، بدلاً من كونها موقعا أساسيا للدفاع عن الشأن العام. أحد المهندسين، الذي رفض ذكر اسمه، توقع "هجمة" شرسة للشركات الخاصة. وهذا ليس مجرد شعار، وإلا لماذا تبرعت "شركة دار الهندسة وشركة خطيب علمي بمشاركة بلدية بيروت والهيئة العليا للإغاثة لإقامة المسح، والمساعدة بالمسح الميداني".

يقول المهندس إن الشركات الخاصة لا تنسق مع منظمات دولية ولا مع وزارة الشؤون الاجتماعية ولا مع الحكومة اللبنانية. ينسقون فقط مع بلدية بيروت. ولدى كثير من المهندسين والمعماريين شكوك جدية بأن المسح سببه دراسة جدوى الحصول على عقود عند إعادة الإعمار، أو لدراسة العقود المربحة عبر فهمهم للأضرار عن كثب: "يجمعون الكثير من الداتا، التي لا تسلّم للدولة. إنها داتا خاصة، يجمعونها بهدوء. وإن لم يأخذوا العقود، فيمكنهم بيع الداتا عن المسح في النهاية"، يقول المهندس. ومثل زملاء له، يلاحظ التداخل الكبير في المسح وفي جمع المعلومات، وينبه إلى نقطة هامة: "لم ينجم الدمار الذي حدث في ثمانينيات الحرب من الاقتتال وحسب، بل من الدولة التي دكت أماكن لم تكن مدمرة". 

السمسرة والترميم والنظام السياسي
المباني التراثية ليست "كتلة واحدة"، وليست جميعها مدرجة على "لائحة الجرد العام" التابعة لوزارة الثقافة. كما أن "لائحة الحماية" التابعة للوزارة، والتي وظيفتها أن توجب إعادة بناء المباني كما كانت، ليست واضحة تماماً. وبالنسبة للوضع العقاري، يجب التمييز بين المالكين والمستأجرين، وانتماء السكان إلى فئة من الفئتين.

لا يخفى على البيروتيين أن الكثير من المالكين لمنازل تراثية، كانوا ينتظرون سقوط هذه المباني لهدمها تماماً، والاستفادة من المضاربة العقارية في المنطقة، وجني أرباح عالية من بيع العقارات، بدلاً من الإيجارات المتدنية التي يدفعها سكان المنطقة الأصليون. "أبو جورج"، الرجل السبعيني، الناجي لأنه لم يكن في المنزل، يخبرنا بينما يزيح لوحاً زجاجياً عن الأريكة البنية التي تعود إلى العام 1983، بأن صاحب العقار كان واضحاً، وأخبره بأن "العقار لم يعد صالحاً للسكن".

ونظراً للضرائب المرتفعة على الأبراج، فإن الخوف كبير من اختفاء المنطقة، وإغراقها بالمضاربات، لتشييد الأبراج المقززة. صحيح أن لا أحد يمكنه الجزم بمواعيد التحولات وأشكالها النهائية، لكن تجربة وسط بيروت القريبة ماثلة في الأذهان. بالنسبة لكثير من الباحثين، فإن قيام الدولة اللبنانية بعد الاستعمار، وتبنيها نظاما تشريعيا غربيا، كانا من الإشارات إلى قطيعة حاسمة مع الماضي. وكان ذلك بمثابة تجريد المدينة القديمة من وظائفها الرمزية، وهكذا جسّدت "ساحة النجمة"، بتصميمها الكولونيالي، النظام السياسي الجديد.

كذلك الأمر في الجمّيزة، التي جسّدت نظاماً "اجتماعياً" موازياً للنظام السياسي الذي قام في بيروت بعد نهاية الحرب الأهلية، بوصفها تجمعاً مدنياً لمجموعة كبيرة من الباحثين عن طريق تقودهم في النهاية إلى تغيير النظام السياسي اللبناني. ويخشى اليوم، أن تعرف الجميزة مصير "ساحة النجمة"، فيعاد إعمارها على مقاس الطبقة المهيمنة على الاقتصاد وعلى السياسة.

قد تكون تلك الطريق خاطئة، ولم تؤد إلا إلى مزيد من الانكسارات، في القلوب كما في المنازل. لكن لم يكن في بال المعماريين الذين بنوا هذه البيوت أن انفجاراً رهيباً سيحدث، وأنه سيقتلع كل شيء. لم يكن في بالهم أن تخزّن نترات الأمونيوم، مع مواد أخرى، حتى الآن لا يعرف أحد ماهيتها الحقيقية. نتحدث عن مبان تراوح أعمارها ما بين سبعين ومئة وعشرين عاماً. المشكلة أن جميع من تتحدث معهم في الشارع، وهم يكنسون الطريق كما لو أنهم يكنّسون أيامهم وذكرياتهم في المكان، لديهم انطباع سيئ تجاه الجهة المخولة بالترميم.

سألنا أحد الشبّان عن المسح، فضحك، وقال إنه لا ينتظر شيئاً من بلدية بيروت، مشيراً بإصبعه نحو وسط المدينة. وعلى بعد أمتار قليلة، من "مخفر الدرك" في الجمّيزة وجهنا السؤال نفسه إلى فرح (25 عاماً)، قالت "لا يوجد مسح". سمِعت من أصدقاء لها في مار مخايل القريبة أن هناك من يعرض أسعاراً كبيرة "كاش" وبالدولار. ليست هناك ملامح أجوبة عن الأسئلة الصعبة: من قرر الترميم؟ وزارة الثقافة؟ من سيموّل؟ هذه إجابات كبيرة ومؤجلة، بينما يستطيع كثير من أصحاب الرساميل المرتفعة الترميم "على مزاجهم"، والبيع على مزاجهم. 

بيروت (حسين بيضون)
يخشى الناس أن تصعد مكان بيوتهم أبراج (حسين بيضون)

المستقبل المتوقع: إحلال طبقي 
المواد التي خرجت من الانفجار تفاعلت مع الباطون القديم، قصّرت من عمر المباني حتى التي لم تقع. والذريعة الأساسية لكل شيء سيحدث، ستكون تخلخل الأساسات، وللأسف الأساسات، حسب مصادر في نقابة المهندسين اللبنانية، تخلخلت فعلاً. تضررت أساسات المناطق، وليس أساسات المباني وحسب. كان الانفجار رهيباً، كما شاهد الجميع. منطقة الروم مثلاً تقع على تلة، وهي تلة الأشرفية، ما أدى إلى تضرر أساسات الطريق، من وزارة الخارجية نزولاً إلى مستشفى الروم بالكامل.

هناك مهندسون يتوقَّعون هبوط الأرض هناك، والمسح مستمرّ. إذا انتزع مبنى من تحت الطريق، سيؤدي ذلك إلى اختلال توازن بالطرق التي فوق، لأن كل شيء تأسَّس حسب بعضه البعض. هناك مبان ظهرت قبل الطرقات. كانت الطرقات فرعية وصغيرة. ليس فقط ما نتحدث عنه هو الترميم: "عندما يهبط مبنى بجانب مبنى تراثي آخر، سيؤثر عليه كثيراً: بالتوازن، بالغبار، بكل شيء". 

مشاكل كبيرة بدأت الظهور. لكي يبدأ الترميم، يتطلب الأمر رخصة للإيجاز، يحب أن تكون موقعة من جميع مالكي العقار. وما يعرفه معظم سكان المنطقة أن جزءاً كبيراً من المالكين سافر فعلاً، أو مات، لأن المباني قديمة جداً. وجزء كبير لم ينجز حصر الإرث.

وفي الأساس هناك مشاكل بين المالكين على المباني الأثرية، في الجميزة ومار مخايل والأشرفية. سيشكِّل الأمر بلا شكّ فرصة كبيرة لهدم المباني من أجل الاستثمار العقاري. الذريعة جاهزة من المستثمرين والراغبين بالاستثمار، لأن الساكنين سيضطرون للمغادرة. حسب المهندسة سوسن سعد، سنكون أمام إحلال طبقي رهيب (gentrification). وإن كان هذا الإحلال في المنطقتين قد بدأ قبل التفجير، وبدأ المكان يكتسب هوية طبقية جديدة، إلا أن العملية ستكون مضاعفة الآن: ستأتي طبقة جديدة لتحل محل طبقة قديمة. الكارثة أن السكان لا يملكون سوى وعيهم بالكارثة، الذي يحتفظون به جنباً إلى جنب مع صدمتهم.

خلال اليومين الماضيين، وخلال عملها، دخلت سعد إلى بيوت فيها كبار السن، وبعد الكشف أنذرت عددا منهم بأن المبنى سيقع. يمكن أن ينهار بعد عام، أو فجأة، وممكن أن يقع أحد الجدران في أي لحظة: "يرفضون الخروج. يقولون لا يمكن أن نترك بيوتنا، تركناه في الحرب الأهلية، والآن لا يمكننا تركه". لديهم خوف واضح من خسارة الملكية، أو عقد الإيجار، أن يصبحوا فجأة في الشارع.

الشارع نفسه اختفى، كما يعرفه الناس، وكما كان. في "التوجهات الوهمية للمدينة"، يقول إيف ستروردز طويلاً عن العنف والخيال، في محاولة منه لمواجهة خيال المدن المدمرة، لأن الأخيرة، وهي ميتة بين أنقاضها، تبقى شاهدة على الوهم. ذلك أن المدن، في النهاية، ليست سوى تشكيل متواصل لمجموعة أنقاض، ومكان لحفظ التناقضات، والأبعاد التي تدمرت ثم أعيد بناؤها مرة بعد مرة. وهذا يصح على بيروت، ربما، أكثر مما يصح على أي مكان آخر في العالم.

بالنسبة للهوية المعمارية، المواد المستعملة في البناء في الجميزة وفي مار مخايل، هي مواد قديمة، والعثور عليها اليوم صعب جداً. لا يمكن إعادة إنتاج مواد قديمة. الخشب المعتق يحتاج إلى 20 عاماً، لن يمكن العثور عليه بسهولة. يمكن تصنيع "الأباجورات" بمواد جديدة، ولكنها لن تكون مثل القديمة، هناك طين في مواد البناء. وجد المهندسون في أمكنة معينة سقفاً مصنوعاً من الطين وخشب الأرز. القرميد الفرنسي والإيطالي، الذي نشاهده كثقوب في عليات البيوت جراء تفتته، لم يعد موجوداً الآن، ولا يستورده اللبنانيون. إعادة الإنتاج مسألة صعبة، حسب المعماريين لا يمكن إعادة البناء بالمواد نفسها بسهولة، وتأخذ العملية وقتاً طويلاً.

يمكن إعادة الشكل القديم فقط. وهذا دائماً في أحسن الأحوال، فكيف هي الحال في بلد مثل لبنان، التجربتان الأوضح فيها لإعادة إعمار حدثتا في وسط بيروت الذي صار نموذجاً رأسمالياً واضحاً للإحلال الطبقي، والثانية في الضاحية الجنوبية لبيروت، التي أعيد إنتاجها بصيغة أمنية تناسب احتياجات حزب الله الذي يهيمن عليها، ومن خارج أي مشاركة للدولة؟ 

في جميع الحالات، عدم إشراك الدولة، أو الجانب المعني بحماية التراث في الدولة، يعني شيئاً واحداً: إعادة تجربة "سوليدير". في ذلك الوقت، مطلع التسعينيات، خرجت الدولة اللبنانية من الحرب منهكة تماماً من الناحية الإدارية، ومن دون أي إمكانات مادية.

اليوم، تواجه الأمر نفسه، الصورة نفسها. حتى أن الدمار في الجمّيزة ومار مخايل يكاد يكون نفسه. وإن حدث الأمر بالطريقة نفسها، فهذا يعني أن المضاربات العقارية قد تنهش ما تبقى. ويشير مطلعون على المراحل الأولى من المسح إلى أن المعطيات الأولية تشير إلى ذلك فعلاً، حتى يمرّ الوقت، وتصير المضاربات ونتائجها "أمراً واقعاً"، تماماً كما حدث في وسط بيروت.

بيروت (حسين بيضون)
العثور على المواد المستعملة في البناء اليوم أمر صعب (حسين بيضون)

أرشيف ضائع وخرائط مفقودة
حسب مصادر في نقابة المهندسين، الخرائط العقارية للبيوت القديمة مفقودة، خاصة بيوت الفقراء، من السكان المسنين الذين لم يهتموا سوى لوجود سقف يحتمون تحته، وباب يختبئون خلفه من العالم المتوحش في الخارج. الآن، وقد سقطت الأسقف، وتخلعت الأبواب، تنبه الناجون منهم إلى عدم قدرتهم على أرشفة الخرائط، وأنهم يبحثون عن رخص المنازل ولا يجدونها، مثل بيار سمعان وشقيقته، المقيمين في غرفة مكشوفة على العالم اليوم، ويرفضان إزالة الركام.

من ناحية تقنية، لإعادة بناء المبنى يجب أن تملك تاريخاً واضحاً له، بدءاً من المواد المستعملة في البناء، الخرائط، هويات المهندسين، المراحل التي استغرقها الأمر. متحف سرسق مثلاً، من الناحية التقنية، يملك أرشيفاً كاملاً، وعدة كاملة للعودة: تاريخ عمارته، مواد إضافية، كانت هناك خطة من أجل الكارثة. لكن بقية الناس، صعب جداً أن تملك الأمر نفسه في الأشرفية. يخشى هؤلاء أن تصعد، يوماً ما، مكان بيوتهم أبراج. يمكن أن تنجو هذه المباني وتبقى ركاماً 5 أو 10 سنوات، لكن بعد ذلك ستصير مدينة أبراج.

في 2015، قامت بلدية بيروت، وبالاشتراك مع الأمم المتحدة، بمسح ميداني للمباني الآيلة للسقوط في شرق بيروت. لكن المهندسين في المنظمات الدولية يشكون من البلدية التي تحتفظ بالمسوحات لنفسها، قبل أن تظهر الأبراج "فجأة". وإلى البلدية، يملك مركز الأبحاث الخاصة في التخطيط المديني والحضري بالجامعة الأميركية في بيروت معلومات كثيرة. في السنوات السابقة مسحوا عقود الإيجار القديمة في منطقتي المدور والرميل المتضررتين اليوم، وتنوع السكان بين مالكين أو مستأجرين (جدد أو قدامى)، ويبدو أن ثمة صعوبة في الحصول على هذه المعلومات اليوم. جزء كبير من المباني التي مسحت آنذاك، بيّنت وجود عائلات بأسرها تعيش بواسطة المساعدات، ولا يمكنها دفع كلفة الإيجار، فكانت تدفع إيجاراً قديماً (لا تتجاوز قيمته 20 دولاراً بسعر الصرف الموازي في لبنان اليوم).

 هذه الفئة فقدت كل شيء اليوم، مثلما فقدت المدينة عمراً طويلاً، في دقيقة واحدة من عمر السادسة عصراً. وهكذا، بين الأنقاض، صار الشارع مكشوفاً، يحاول النهوض من بين ركامه. ينظر إلى البحر وينتظر.

المساهمون