الاستدعاء المكثّف للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، نحو لبنان، وتحذير وزير خارجيته جان إيف لودريان من "اختفاء لبنان"، قد لا يأبه لهما ساسة وأحزاب "الجمعية الوطنية" (البرلمان) في باريس، إلا في سياق لعبة المصالح العليا لبلدهم في شرق المتوسط. وسواء كان تدخلاً ذاتياً، أو بمعية أصوات لـ"عودة الانتداب" إلى شؤون "لبنان المستقل"، أصبح الأمر كمن يصدر "فرمانات" حوله، وربما غيره في المشرق العربي.
ثمة حقائق هنا لا يمكن تجاهلها، من بينها أن لبنان، المحكوم بطائفية سياسية موروثة، بات نموذجاً مصغراً لطبقة سياسية عربية حاكمة، وتوابعها النخبوية، سواء في المشرق المُدمى، أو بقية عالم عربي نازف، استبداداً وفساداً، وتفككات مستقبلية.
قد تكون المرحلة الحالية أشبه بما عاشه أجدادنا قبل أكثر من 100 سنة، حين صار الاستعمار "انتداباً"، ومنه دُق الخازوق الصهيوني، وسط ممالك الطوائف العربية، بـ"سايكس بيكو" و"وعد بلفور"، وتداعياتهما حتى يومنا. وسؤال الغياب العربي الرسمي عن قضايا الأمة يستعيد ما ذكرناه في هذه الزاوية، قبل وقت قصير، عن تحوّل العرب إلى "رجل العالم المريض".
الوقائع السورية واللبنانية والعراقية واليمنية والفلسطينية والليبية، وبقية القائمة، تعيد طرح مبررات الغياب العربي عن الكوارث الحاصلة. فتغطية الوقائع، بالقول إن "جامعة الدول العربية أصبحت ماضياً"، أو على الأقل محكومة بأجندات سياسية-جغرافية، هو بالضبط لبّ المرض العربي العضال مكرراً، والمستعصي لعقود. فلو كنت سياسياً تركياً أو إيرانياً أو غربياً، أو حتى صهيونياً، تراقب تهلهل العرب، فلم لا تنتهز فرصة فرض مصالحك؟
الحقيقة المُرّة في خيبات الراهن العربي، أنه ليس فقط نتاج نفاق وازدواجية معايير غربية، وتحالف بين أنظمة الاستبداد لمواجهة حقوق وحريات المواطن العربي، المنتفض قبل 10 سنوات، بل أيضاً نتاج ممارسة جماعات دارت وتدور في فلك المستبدين، سلاحاً وثقافة وتبريراً إعلامياً.
وساهم في صناعة التردي، والتعايش مع مرحلة "فوق التطبيع" مع الاحتلال، من تجنّدوا في خدمة "الثورات المضادة"، "يساراً" و"يميناً دينياً". فثمة فارق كبير بين استقبال طلبة جامعة بيرزيت لرئيس الوزراء الفرنسي الأسبق ليونيل جوسبان، عام 2000، بسبب "حزب الله"، وبين غرق الأخير، ومن على شاكلته، في الدم العربي دفاعاً عن الدكتاتورية، كما في سورية وغيرها. في كل الأحوال، سيبقى استكمال ثورة الشارع العربي على الكوارث التي يجلبها الطغاة، بما فيها استدعاء غزاة وانتدابات، حتمية تاريخية لا مفر منها.