كتُبُ التتار الدينية في بيلاروس (بيلاروسيا أو روسيا البيضاء)، مثال لمزيج من ثقافتين غير متشابهتين ومختلفتين تماماً. لقد كانت الكتب المكتوبة بخط غير مفهوم، تمثّل لغزاً للبيلاروس منذ فترة طويلة، ولم يتخيلوا بأن هذا الخط الغريب، يمكن أن يحتوي على كلمات بسيطة لنص عادي مكتوب باللغة البيلاروسية، وإن بحروف أخرى غير حروفها.
هذا النوعُ من الكتابة ذو التاريخ العريق، يُسمَّى بالكتابة العربية البيلاروسية، التي ابتدعها التتار ودونوا بها كتباً بيلاروسية أو بولونية اللغة والمعنى والكلمات، لكنها عربية الحروف. كتابة ميزت الثقافة الإسلامية لتتار بيلاروس.
يعيش التتار في الأراضي البيلاروسية منذ أكثر من ستة قرون، وهم سليلو خان توختاميش الذي كان قد طرد من القبيلة الذهبية. استقبله فيتاوتاس حاكم دوقية ليتوانيا الكبرى في بدايات القرن الخامس عشر ليقيم في البلاد، قبل أن تلحقه أعداد أخرى من أبناء التتار كأسرى حرب أو طوعاً بعد دعوتهم من قبل فيتاوتاس لمساعدته في الدفاع عن مملكته.
لم يعد التتار بعد ذلك إلى أوطانهم، وأقاموا بشكل نهائي في بيلاروس، والتحموا مع أبنائها، وبنوا مساكنهم ومساجدهم فيها، بعضها لا يزال حتى اليوم كما في مدينة إيفي. حافظ التتار في بدايات عهد إقامتهم في بيلاروس على تقاليدهم وثقافتهم ولغتهم، غير أن اندماجهم التدريجي مع سكان البلاد جعلهم يتبنّون لغتها، ليصبحوا مع بداية القرن السادس عشر لا يتكلمون إلا اللغة البيلاروسية.
في القرن السابع عشر لم يعد أي من تتار ليتوانيا الكبرى يستطيع الحديث بلغته الأم، وهي ظاهرة إندماج فريدة، قلّ مثيلها. وعلى عكس اللغة، حافظ التتار البيلاروس على دينهم وموروثهم الثقافي، وواصلوا ممارسة شعائرهم الدينية الإسلامية، والاحتفال بالأعياد، واستخدام اللغة العربية في الصلاة.
ولضرورات الترجمة، ظهرت النصوص البيلاروسية (كان أغلبها يستخدم مفردات عامية) المكتوبة بالخط والحروف العربية، مضافاً إليها خمسة حروف، وباتجاه كتابة مشابه للعربية من اليمين إلى اليسار. وصلتنا اليوم 41 مخطوطة مكتوبة بهذه الطريقة، خطّت باستخدام اللون الأحمر للعناوين والكلمات المهمة، وباللون البني في المتن والنص الأساسي. وقد نسخت كلها بخط النسخ العربي مع بعض الملامح المحلية الطفيفة.
وتنقسم هذه المخطوطات المترجمة إما عن العربية أو التركية إلى أربعة أنواع: كتب تحوي نصوصاً ذات طابع أخلاقي وديني وقصصي وتاريخي، وكتب تفسير وترجمة للقرآن سطراً بسطر، من اللغة العربية إلى البيلاروسية أو البولونية. وكتب تجويد القرآن باللغة العامية مع الحفاظ على بعض الكلمات العربية الأصلية، ثم "الحمائل" وهي ورقة صغيرة تحوي "تعويذة سحرية" كان يحتفظ بها مفتي مدينة فيلنيوس.
* باحثة ومستعربة بيلاروسية