بين الديمقراطية والحساسية.. تعقيباً على معن البياري
لفتني مقال الأستاذ معن البياري (حساسية تركي الفيصل)، معلقاً على حديث الأمير الذي قاله في مؤتمر مؤسسة الفكر العربي في المغرب، أنه أي الأمير تركي (لديه حساسية تجاه مفردة الديمقراطية، مع تقديره إيجابياتها). هذه الفقرة التقطها البياري، بحسه الصحفي حللها تحليلاً موفقاً. ويؤكد الأمير، بحسب المقال، أن هذا ليس موقفاً من الديمقراطية، وإن هناك خصوصية في بلده تجعل من الديمقراطية بيئة غير مناسبة لها، وأنه يفضل "المشاركة الشعبية". ولكن المتابع يلاحظ أن المفهوم الديمقراطي تسلل إلى السعودية، وهناك إصلاحات نوعية، فمثلاً من 1997 ازدادت عضوية أعضاء مجلس الشورى ثلاث مرات، من 60 عضواً حتى بلغت 150 عضواً. وفي 2005، جرت انتخابات لعضوية المجالس البلدية. وهذا قبل الربيع العربي. وقد يكون هذا ما يسميه المشاركة الشعبية، ولكن هناك إصلاحات نوعية، وهي تمكين المرأة السعودية سياسيّاً، بانضمام نساء إلى مجلس الشورى، وإعطاء المرأة حق التصويت والترشيح للمجالس البلدية 2015، كما عينت أول وزيرة. وهي ولاية عامة، وندعم مجهودات المرأة السعودية لنيل حقوقها كافة، وهناك تعين أول وزير سعودي غير سني، تحت مفهوم المواطنة. قد يسمي الأمير تركي الفيصل هذه الإصلاحات السياسية (المشاركة الشعبية)، لكنها جزئية من المفهوم الديمقراطي، وهنا تجلت وجاهة توصيف البياري حساسية الأمير من مفردة الديمقراطية بأنها منطقة ملتبسة بين التحفظ والرفض. وهذه المنطقة الرمادية يرصدها تماماً الباحث في علوم التاريخ والاجتماع، وهي تحدث عندما يتسلل مفهوم ثقافي واجتماعي ما إلى المجتمعات بشكل سلمي. وتحليل البياري الدقيق يلفت المراقب إلى أمر غاية في الأهمية، هو أن المراقبين، في الإعلام خصوصاً، غالباً ما يرصدون الانعطافات الحادة والأحداث الجسام التي تحدث في الدول والمجتمعات، ويسهون عن التغيرات التي تحدث سلميّاً داخل المجتمعات، أو لا يلحظونها. فمثلاً يجد المتتبع للشأن السياسي في المنطقة أن أقوى البرلمانات التي لها صلاحية حجب الثقة عن الوزارة، أو الوزراء، هي مجلس النواب الأردني ومجلس الأمة الكويتي، ولحق بهم مجلس النواب المغربي، بعد الإصلاحات في 2011. ويعتبر لبنان، مثلاً، الدولة الأولى في المنطقة من حيث حرية الرأي والفكر، على الرغم من أن ديمقراطيتها قائمة على الطائفة، والتي كانت حلاًّ وسطاً لوقف الحرب الأهلية التي كادت تودي بلبنان كياناً وشعباً.
الشاهد أن هناك تغيرات وإصلاحات تحدث في بلدان المنطقة سلميّاً، وهي تحدث، بحسب وعي النخبة في البلد المعين ونضجها، فللنخبة دور محوري في تغير الواقع، ففي مصر، بعد ثورة 25 يناير، والتي ظهر فيها المصري في أبدع تجلياته وعمقه الحضاري، وقد بهر العالم، تخلت النخب، ببساطة وبسهولة غريبة، عن هذا الإرث الثوري الملهم، لأنها لم تتقبل الآخر، ولم تصبر على الديمقراطية، وفضلت الرجوع إلى منطقة الأمان تحت حكم الفرد، ولم تتحمل تبعات التحول الديمقراطي. وهذا إنما يدلل على عدم نضج واضح من النخب. وهذا ما نراه يتكرر في تونس، ولكن، عن طريق صندوق الاقتراع، فهل تفضل النخب التونسية العودة إلى بقايا زين العابدين بن علي وبورقيبة، وتكون كمن يحرث في البحر، أو تأخذ نقلة نوعية، وتصل بالتغيير إلى منتهاه؟
أما في السودان، حيث يسير كل شيء عكس التاريخ، فإن النخب هي من تسقط الحكم الديمقراطي، وتقوم بالانقلابات، فانقلاب الرئيس المخلوع، جعفر نميري، قام به الحزب الشيوعي السوداني، وانقلاب الرئيس عمر البشير قامت به الحركة الإخوانية السودانية، والذي مازال يجثم على صدر الشعب السوداني منذ 25 عاماً، ويريد من الشعب أن ينتخبه في دورة سادسة ليكمل ثلاثين سنة. فالنخب اليسارية واليمينية في السودان لا تعي دورها، وطالما اعتقدت أنها تمتلك الحقيقة وحدها، وتفرض الوصاية على الشعب. لذلك، ليس عجيباً أن ينقسم السودان، وكيانه مهدد بالتفتت، وثروته منهوبة، طالما هناك نخب لم تشب عن الطوق، ولم تعرف بعد دورها.
إذن، الديمقراطية، قبل أن تكون نظاماً سياسيّاً، هي ثقافة اجتماعية سياسية، لها خلفيتها الفلسفية القائمة على الحرية، وسبب رفض كثيرين مفردتها وتحفظهم عليها هو التشويه الذي لحق بها، وكان للدور الأميركي، والذي اتخذ من مفردة الديمقراطية درعاً يخفي فيه نياته التوسعية وأطماعه في المنطقة، نصيب الأسد في نفور كثيرين من المفردة. والغريب أن شعوب المنطقة تعي جيداً المعني الحقيقي للمفهوم الديمقراطي القائم على المشاركة والحريات والحقوق المدنية، وأهم شيء حسم التداول السلمي للسلطة، أي الحكم الرشيد.