27 أكتوبر 2024
تحالف الظروف
يستخدم المهتمون بعلم السياسة تعبيراً أعجمياً يتحدث عن تحالف الظروف، في إطار المسارات السياسية أو العسكرية أو الأمنية في العلاقات بين المجموعات، أو الدول التي تحمل علاقاتها تراكماتٍ من العداوة أو التناقضات الفكرية. ويأتي تعريف التعبير في القاموس بأنه "اتفاق ضمني أو مكتوب لتعاونٍ انتهازي الطبيعة، من أجل تحقيق هدف معين. ويمكن لهذا الاتفاق أن لا يكون له مستقبل، بعد تحقيق الهدف الذي وُضع من أجله". وبالتالي، يمكن أن يجري الحديث عن عدة وقائع تاريخية، تُشير إلى أمثلةٍ لهذا النوع من الاتفاقيات، فكتب التاريخ تتحدث عن علاقات مشبوهة بين الحركة الصهيونية والحزب النازي الألماني بعد صعوده للحكم سنة 1933، حيث رأت الحركة الصهيونية في ذلك فرصةً ذهبيةً لإجبار اليهود على الرحيل إلى فلسطين، وتثبيت نظريةٍ لطالما كرّرها الصهاينة بأن اليهود يجب ألا يكونوا جزءاً من مجتمعٍ غير يهودي. وقد أجرت الحركة الصهيونية اتصالاتٍ عديدةً بقادة الحزب النازي الألماني. وقد حصلت الحركة الصهيونية، في سعيها إلى دفع اليهود إلى اختيار طريق الهجرة والاستيطان في أرض فلسطين، على مساعدة ثمينة من "حلفاء الظرف" الألمان. وصار ممثلو الحركة الصهيونية يسافرون إلى ألمانيا النازية لاختيار مرشحين من اليهود، لديهم استعداد للذهاب إلى فلسطين، للمشاركة في "النضال والحرب". فالحركة الصهيونية إذاً تحالفت ظرفياً مع النازية الألمانية التي تبحث عن تطهير عرقي، يستهدف أساساً اليهود والغجر والمعاقين والمثليين. وتم تتويج هذا التحالف بتوقيع اتفاقية "هعفراه"، أي النقل، والتي نظّمت عملية نقل الأشخاص ورؤوس الأموال.
كما أن "تحالف الظروف" قد بدا واضحاً في السنوات الأخيرة بين الأنظمة الاستبدادية العربية
والمنظمات الإرهابية الدينية المتطرّفة، فحين شعر الطغاة بأن استبدادهم بشعوبهم قد طال، وبأن حبل الصبر يكاد ينقطع، وبعد أن خرجت الشعوب بآلافٍ مؤلفةٍ تنادي بحقوقها وبحريتها وبكرامتها سائلة العدل، صار من المُجدي، نظرياً وعملياً، للطرفين المتطرّفين، تطرّف الأول استبدادي وإفسادي، وتطرّف الآخر ديني، أن يتحالفا، وإن لم يوقّعا على وثيقةٍ تنص على ذلك، فسبب وجود الأول مرتبط بوجود الثاني، ويبرّره، والعكس صحيح، فلا يمكن للطاغية أن يستمر في إحكام شد الخناق على شعبه، من دون حجج "صلبة"، من نوع "محاربة الإرهاب، إعادة الاستقرار، مواجهة التطرّف الديني...". إنه يحتاج لتشجيع من يُتاح من الإرهابيين على خوض المعركة ضده، فيعمد إلى الإفراج عن قيادات لهؤلاء الإرهابيين لديها مهارات ومعارف وممارسات عقائدية وتنظيمية. كما أنه، في أحيان كثيرة، يغض الطرف عن انتقال مئات الإرهابيين في وضح النهار من منطقة إلى أخرى في أراضي الدولة، ليس من الضرورة أن ترصدها الأقمار الصناعية، وإنما يكفي لها الحمام الزاجل. أو ينقلها في حافلاته من منطقة إلى أخرى، زارعاً الخوف بين السكان غير المنضوين تماماً تحت عباءة استبداده، وغير المسبّحين بحمده وجلاله. وفي مناسباتٍ أخرى متكرّرة، يشتري من المجموعات الإرهابية المفترض أنه يحاربها نظرياً، أو يبيعها نفطاً وسلعاً غذائية ومحاصيل زراعية.
ومن جهة العلاقات مع الآخر للطرفين المستمتعين بتحالف الظروف هذا، يلجأ المستبد إلى التلويح بخطر الإرهاب أمام زواره الأجانب، مُبرّراً أداء أجهزته القمعية وفساد قضائه وعسف موظفيه بأنه الطريق الأمثل لمواجهة الإرهاب الإسلامي. خطاب يُقنع أكثر من مسؤول غربي، وإلى درجة أنه صار مُحدّداً لسياسات دول غربية كثيرة، ونأى بها عن دعم حراك الشعوب المطالبة بالحرية، بتناقضٍ واضح وصريح مع مبادئ الغرب وقيمه، المعلنة على الأقل. كما تستعمل المجموعات المتطرّفة العداء مع النظام القائم لكسب بعض التأييد الشعبي الساذج، والذي يجد فيها ربما المنقذ والمُخلّص.
تحالف الظروف هذا يُمكن له أن يكون أيضاً خارج أطر المشاريع السياسية الكبرى، وأن
ينعكس في مواقف فردية، يُجمع من خلالها طرفا المعادلة عقائدياً على تبنّي خطاب كراهية شبه موحد، فبعد الحريق الهائل الذي التهم كاتدرائية نوتردام الباريسية، وبعد أن روّعت المشاهد جموعاً غفيرة من الناس الطبيعيين، بعيداً عن حدود الانتماء الديني وواجباته، وبعد أن فقد التراث الإنساني جزءاً من تركيبته البصرية والقيمية والمعنوية، طالعتنا وسائل التواصل بمواقف تحمل جرعاتٍ مرعبة من الشماتة والتشفّي، وتتبنّى لغة الكراهية من بعض المتدينين المتطرفين من جهة، ومن جانب أزلام الطغاة وأدوات الاستبداد، فالأولون يرون فيما حصل عدالة إلهية، ينتقم بها "الله" من "الكفار"، حتى يصل به الأمر إلى استخدام تعابير وألفاظ من المؤكد أنه لم يقتبسها من أي نصٍّ مقدس. أما الموالي، ممسحة المستبد الدائمة، والذي يُبرّر له جرائمه وانتهاكاته مهما اشتدّت، فهو يتشفّى أيضاً بما حصل، مُشيراً إلى مسؤولية الحكومة الفرنسية عن تخريب أوابد في بلده الأم، من خلال دعمها المزعوم للمتمرّدين "الإرهابيين"، حسب تعبيره. في حين أن القاصي والداني يعرف أن البلاد نالت من تخريبٍ متعمدٍ، ساهمت فيه براميل المتفجرات والصواريخ البالستية وغارات الطائرات التي أغدق عليها بها المستبد. انتقل "تحالف الظروف" من ملفات الدول والجماعات لينعكس على أفراد يدّعون العداء، والعداء منهم براء.
كما أن "تحالف الظروف" قد بدا واضحاً في السنوات الأخيرة بين الأنظمة الاستبدادية العربية
ومن جهة العلاقات مع الآخر للطرفين المستمتعين بتحالف الظروف هذا، يلجأ المستبد إلى التلويح بخطر الإرهاب أمام زواره الأجانب، مُبرّراً أداء أجهزته القمعية وفساد قضائه وعسف موظفيه بأنه الطريق الأمثل لمواجهة الإرهاب الإسلامي. خطاب يُقنع أكثر من مسؤول غربي، وإلى درجة أنه صار مُحدّداً لسياسات دول غربية كثيرة، ونأى بها عن دعم حراك الشعوب المطالبة بالحرية، بتناقضٍ واضح وصريح مع مبادئ الغرب وقيمه، المعلنة على الأقل. كما تستعمل المجموعات المتطرّفة العداء مع النظام القائم لكسب بعض التأييد الشعبي الساذج، والذي يجد فيها ربما المنقذ والمُخلّص.
تحالف الظروف هذا يُمكن له أن يكون أيضاً خارج أطر المشاريع السياسية الكبرى، وأن