مغازلة قراء كل دولة
تتنوع الاتهامات ونوعية "النقد" الذي تكيله الجماعة عبر منصاتها للنظام التركي، ومنها جريدة زمان العربية و Zaman Avusturya في النمسا و جريدة Kanttekening في هولندا وMakedonya Zaman في مقدونيا، بحسب تصورات المسؤولين في الجماعة عن "الآخر" المشين لدى كل بلد من البلاد المستهدفة، على سبيل المثال في حال كانت الجريدة تتوجه لقراء مصريين ولكون "إسرائيل" هي العدو في المخيال السياسي المصري، تتهم صحيفة "زمان" بنسختها العربية، أردوغان بالعمالة لإسرائيل واعترافه بالقدس عاصمة لها وفق ما تكرر أكثر من مرة، ومن بينها ما جاء في العدد الصادر في 15 مايو 2018، والسعي لتحقيق مشروع "الشرق الأوسط الكبير" (5 ديسمبر 2018)، وتخليه عن القضية الفلسطينية (10 ديسمبر 2017)، وهو ما يعكس خللا منطقيا لكون نظام السيسي لديه العلاقات الأكثر دفئا في المنطقة مع كيان الاحتلال ناهيك عن العلاقات المتوترة بين تركيا وأردوغان ودولة الاحتلال.
وإن كان الهدف هو قراء هولندا، تركز صحيفة Kanttekening في الأخبارعلى ما تسميه انهيار شعبية أردوغان (24 سبتمبر 2019)، وتنقل وتبرز تصريحات المعارضين عن الانقسامات داخل الحزب الحاكم (4 نوفمبر 2019)، وبالمقابل فإن جميع وسائط الجماعة لا تتناول أمور مثل هذه في الحالة المصرية حتى وإن كانت تظاهرات شعبية رافضة لاستمرار حكم السيسي، وكذلك بالطبع تركز هذه النسخة من صحف الجماعة على إبراز الخصومة السياسية بينه وبين "الأكراد" (29 أكتوبر 2019) كون هولندا واحدة من الدول الداعمة للقوات الكردية في محاربة "داعش" بسورية، وفق ما جاء على بوابة الحكومة الهولندية 22 ديسمبر/كانون الأول 2014 وكذلك لوجود جالية كردية عراقية تركية تقيم فيها، وعليه تهتم الصحيفة بالترويج لما تسميه "مذابح" الأتراك بحق الجماعات الكردية وانتقادات النخب السياسية الكردية للرئيس التركي (4 نوفمبر 2019).
في النمسا كذلك نجد جريدة Zaman Avusturya تركز على حقوق الصحافيين الأتراك والخصومات التي تصورها على أنها "شخصية" بين رئيس الجمهورية وبين الصحافيين في الداخل التركي وخارجه (10 أكتوبر 2019)، وبالرغم من تنكيل السيسي بالصحافيين المصريين، فإن وسائط الجماعة لا تتحدث عن الأمر من قريب ولا من بعيد.
في مقدونيا ولقربها من السياق الداخلي للسياسة التركية تضع الجريدة ثقلها في التحقيقات الداخلية ويوميات محاكمات الجماعة، وتشير الصحيفة لممارسات النظام التركية باعتبارها امتدادًا لإجرام "النازية" في ألمانيا (12 نوفمبر 2019)، وبالطبع يتغافل المتحدثون باسم الجماعة عن مثل تلك الممارسات والتي تجري في مصر ولكن بحق هذه المرة وفق تقارير دولية.
اتهامات مصنوعة على المقاس
يظهر الرئيس السابق لتحرير النسخة العربية لصحيفة زمان، تورغوت أوغلو، بشكل متكرر في وسائل الإعلام المصرية المسيطر عليها من الأجهزة الأمنية، ليكيل النقد للرئيس التركي ويتهمه بالظلم والفساد وقمع الحريات والربط المباشر والقطعي بين أردوغان و"داعش"، وهي الأيقونة التي يعلم صحافيو غولن أنها "تبيع" في الوسط الأمني-السياسي بالمنطقة، وعلى سبيل المثال في 5 مارس/آذار الماضي، يقطع رئيس تحرير الجريدة على قناة مصرية بأن أردوغان يتعاون مع "داعش" بالمال والسلاح الكيميائي ويوفر المعائش والتسليح الثقيل والمقاتلين، ويدعي أن معظم مقاتلي "داعش" من الأتراك، بالإضافة إلى مقاتلين من آسيا الوسطي ونسبة قليلة من أندونيسيا وماليزيا والإسلاميين السياسيين من الدول العربية، وأن جنود أردوغان بحسب صحيفة الجماعة، هم "داعش" وبوكو حرام وأمثالهما.
وبينما يبرز تورغوت أوغلو العداوة الفكرية بين جماعته وأردوغان بالإحالة لفكرة تنصيب أردوغان نفسه خليفة للمسلمين وادعاء محاربته الأديان (6 مارس 2019 )، فإنه يدين عداوة أردوغان لنظام الجنرال عبد الفتاح السيسي، ويدافع عن حلف مصر والسعودية والإمارات في المنطقة، ومغازلة الخطوط العريضة لسياسة الإمارات بدعم حوار الأديان ومحاربة "الإرهاب" وهو الإسلام السياسي، وكأن الجماعة ليست أحد فصائله.
وتأتي مغازلة الجماعة للسياسات الأمنية الإقليمية أيضا في حديث زعيمها فتح الله غولن مع الإعلام المصري في سبتمبر/أيلول الماضي، والذي يشير لعدد من النقاط المهمة:
- ترسيخ ثنائية "نحن" الأطهار في مواجهة "الآخر" – أي أردوغان - بانتقاصه على عدة محاور: الوطنية (بادعاء عدم انتمائه لأخلاق وقيم مجتمع الأناضول) والتطهر الديني (أن مؤسسات الجماعة طاهرة من الفساد والمخدرات والتدخين ومؤسسات حكمه تعج بهذا)، الأهلية العلمية (أنه خريج الثانوية الدينية فقط، ويحقد على مؤسسات التعليم العالي التابعة للجماعة)، المبادئ السياسية (نحن ثابتون على مبادئنا والرئيس التركي يتخذ مواقفًا متغايرة كل فترة) الفساد واللصوصية (نحن أطهار ونظام أردوغان فاسد مرتشٍ).
- تصوير الإرهاب والتطرف بأنه "فرض الإسلام السياسي للمعتقدات والممارسات الدينية على المجتمعات التعددية" ولأن المجتمعين التركي والمصري قائمان على التعددية (!) فإن الإسلام السياسي لا يصلح لكليهما، وبهذا يكون النظام التركي متطرفًا بينما نظام "السيسي" ناضج ومعتدل.
- وبالرغم من تصويره نظام الرئيس التركي أردوغان أنه نظام متطرف يفرض توجهات الإسلام السياسي على الطوائف المختلفة، لكنه يتهمه في نفس الوقت بالبراغماتية الدينية والميكيافيلية السياسية والتقلب في الأفكار والتوجهات، وهو ما يعكس تصورًا مشوشًا ومتناقضًا للواقع السياسي التركي.
- دعوة الدول الغربية والعربية للتوحد لمواجهة استبداد أردوغان، وغض الطرف عن استبداد السيسي الذي يقتل في السجون أكثر من 60 ألف معتقل سياسي ويخطف عشرات الأسر بأطفالها وذويها إلى المجهول.
- امتداح مسار النظام السياسي المصري وحفزه للبناء على رصيد "الاحترام والقدوة" التي تجدها الشعوب العربية والأفريقية في مصر، في الوقت الذي يدين فيه تصوره لمساعي تركيا للسيطرة والنفوذ في العالم الإسلامي استثمارًا للميراث السياسي والثقافي للعثمانيين.
- إدانة انتقاد النظام التركي للانقلاب في مصر ووصف أردوغان لوزير الدفاع السابق عبد الفتاح السياسي أنه "فرعون" على أساس أنه أي أردوغان لم يطلع على شخصيته ولم يعرفه جيدًا(!) ألا يكفي أنه انقلب على الشرعية السياسية وأنه ذبح الآلاف في الشوارع.
ويظهر خطاب جماعة غولن في المقابلات المسجلة وعبر منافذها الإعلامية بمنطق متناقض فبينما يهيل خطاب غولن على رأس النظام التركي اتهامات "النفاق" و"التذبذب" و"التطرف" و"الفساد" واللصوصية، متجاهلاً عن فظائع أكبر وأعتى تورط فيها، ولا يزال نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي، وفي الوقت الذي يحتم فيه المنطق والعدل إدانة الأخير على الجرائم المرتكبة بحق الإنسانية، فإن غولن على النقيض يراه ناضجًا ينبغي اتباع خطاه في سائر بلدان المنطقة.