تحت سقف التصادم وفوق مستوى التسليم

01 سبتمبر 2017

طيب تيزيني.. تنبّأ بالراهن مبكرا (Getty)

+ الخط -
ذُيّل حوار معه، يعود إلى 30 ديسمبر/ كانون الأول 2000، وعنوانه: "الطيب تيزيني يطرح مشروع طريق سوري ثالث"، بهذه العبارة: تحت سقف التصادم وفوق مستوى التسليم، هذا هو جوهر المشروع الذي يطرحه المفكر السوري طيب تيزيني للخروج بسورية من أزماتها الراهنة. ولم تكن "الأزمة الراهنة" حينها، أي قبل سبعة عشر عامًا، على شاكلة الأزمة الحالية الموغلة في الدم والثارات والهدم والتدمير للبنى المجتمعية والعمرانية وكل بنى الدولة، ولم يكن الشعب السوري قد بدّدته الحرب وشرذمته، ودفعته إلى خيارات صعبة هروبًا من الموت، إن كان لناحية البقاء في الوطن أو الخروج منه.
كانت هناك أزمات عديدة، جلها شكل سببًا للأزمة الحالية التي تنبأ بها الطيب تيزيني، مثلما قال: هنالك احتمال وجود انفجارين كبيرين فيه. انفجار طائفي، أو انفجار طبقي ملوث طائفياً، ليس فقط كما حدث في مصر تحت ما سمّاه أنور السادات انتفاضة الحرامية، وإنما بتزوير الحدث.. هذا لن يكون انفجاراً يعبر عن الجياع، وإنما سيكون مشكلةً طائفية، وهذان احتمالان أراهما بوضوح طبعاً إذا كان الحديث يتعلق بسورية، فليس هذا لأن الشعب السوري طائفي، بل لأن هنالك مسوّغات لمثل هذا الاحتمال. كان هذا في معرض حديثه عن مشروع ثقافي 
سياسي، انبثقت ضروراته من تلك المرحلة السورية تحديداً، بديلا عن المشروع الذي نادى به النظام حينها، بداية لمرحلة جديدة بدأت مع استلام الرئيس بشار الأسد الحكم، وهو السياسي الثقافي، معتبرًا أن "سمته الأولى مطلبية، تلح على اللحظة الآنية بأن تطرح الأقصى في مرحلةٍ لا تحتمل إلاَّ الأدنى.. النظام يرفض، والشعب غائب. ولذلك ولهذا، تبعثرت قوى كثيرة".
ليس استدعاء هذا المقتطف من الحوار بدافع ملامة الذات، والتباكي على الماضي، إنما استدعته اللحظة الراهنة والواقع المريع الذي آلت إليه سورية، تزامنًا مع الأصوات والتحليلات التي تصدر من هنا وهناك بشأن العملية التفاوضية، والوضع الدولي ومتغيراته التي انعكست تغيرًا في المواقف من الأزمة السورية، في وقت ينقسم فيه أطراف النزاع بين متباهٍ بما حقق من انتصار ميداني، طامحًا بالمزيد، وآخر مصرٍّ على عدم الهزيمة والاستمرار في المواجهة، وخوض حربٍ لم يعد من السهل التنبؤ بنهاياتها، سوى بحقيقة وحيدة أن الشعب السوري يقتل كل يوم بالعشرات والمئات، وبيوته تدمر وجغرافية وطنه تستباح، ويعاد تقسيمها ورسمها بخبرات ونوايا ماكرة.
ما يجري تداوله ونقده ونقضه وقبوله واستنكاره هو عملية تفاوض، وللتفاوض معناه وغايته وأصوله، وهو قبل كل شيء يستبطن معنى النزاع أو الخلاف على شيء، كل طرفٍ يدعي ملكيته. ففي القاموس "فَاوضَهُ في الأَمر مفاوضة: بادله الرأْيَ فيه بُغْيَةَ الوصول إِلى تسوية واتِّفاق". وللتفاوض مبادئه، منها مثلاً عدم الاستهانة بالخصم أو بالطرف المتفاوض معه، وأن تبني تحليلاتك، ومن ثم قراراتك، على الوقائع والأحداث الحقيقية، ولا يجب أن تبنى على التمنيات، وإذا كانت هناك مبادئ ناظمة لعملية التفاوض، أيًا كان مجالها أو القضية المتفاوض عليها، فهذا لا يعني أن تحديد أهداف العملية التفاوضية وأطرافها هو بمثابة النص المقدس أو المنزل، خصوصا فيما يخص القضايا الكبرى، كقضايا الشعوب، ومنها قضية الشعب السوري الذي انتزع القرار منه، منذ غادر سلميته في انتفاضته، وصار رهنًا للسلاح والقوى المسيطرة التي تتدخل في مصيره، طمعًا في مآرب تخصها.
الشعب السوري المنقسم بالإكراه، أو بالاقتناع، حول قضية وطنه ومصيره، لديه صوت، لكن الأطراف التي تسيدت الموقف السياسي والعسكري أخرسته. ومع هذا، هناك همس يعلو شيئًا فشيئًا، إنه صوت الشعب الذي بدأ يصحو، بعد أن أدخلته المدافع والطائرات في شبه غيبوبة، صوت يتجاوز الخرس الإجباري، يريد أن يقول كلمته ويصرح برأيه الذي حرمه الطغيان السابق والطغيان البديل منه.
هناك شعب أنهكته الحرب، لا يمكن لطرفٍ من الأطراف المتنازعة أن ينسف وجود قسم منه، فقط لأنه لا يواليه أو يتفق معه بالمطلق بدون اعتراض. لا يمكن للنظام أن ينكر وجود قسم كبير من الشعب السوري مع المعارضة، أو على الأقل خاضع لمنطقها، مثلما لا يحق للمعارضة أن تمحو وجود ذلك القسم من الشعب، المؤيد للنظام أو الصامت الذي يدان صمته، ويتهم بالتخاذل من جميع الأطراف.
المبادئ التي جرى التفاوض عليها منذ "جنيف1" ليست مقدسة، مثلما أن التفاوض ليس كائنًا ميتًا، يجب أن يمتلك الحد المقبول من الحياة، وكي يكون التفاوض حيًا عليه أن ينقد جولاته السابقة ونتائجها، ويراعي الوضع الراهن، الميداني والسياسي. ليس في السياسة ثوابت، والتفاوض الثابت عند حدود معينة لا ينقذ قضيةً، ولا يحل مشكلة، كم من القضايا الخلافية في تاريخنا القديم والحديث ما زالت تراوح مكانها، وتشعل الشعوب في معارك لا تنتهي، ليس فقط التي عمرها ألف وخمس مائة عام، بل قضايا حديثة. وكم من المفاوضات التي بدأت حول نزاع على مروحة من المبادئ مرّ عليها الزمن، وبقيت الخلافات وصار التفاوض على مساحات أقل بكثير؟
هل إنقاذ ما تبقى من سورية وشعبها هو بالوقوف الصارم الحازم عند الحدود المرسومة سابقًا،
أم أن المستجدات تفرض منطقها، ويجب أن تدفع إلى محاولات أخرى، قد تكون أكثر جدوى مما أنجز إلى اليوم، فما أنجز لا يتعدّى أن يكون دمار وطن، ودفع شعب إلى الموت. ثم ماذا لو اتفقت الأطراف الدولية، العالمية والإقليمية، فيما بينها؟ هل سيبقى الموقف التفاوضي راسخًا عند ثوابته الأولى، حتى لو فقدت الأطراف المتفاوضة الغطاء الخارجي؟
كل الشعب السوري دفع ثمن هذه الحرب المدمرة، حتى لا يُسفك مزيد من دمائه، يجب وقف الحرب والشروع بمفاوضاتٍ لا تتغافل عن الواقع أو تترفع عنه. وقف الحرب يمكن أن يهمد نيران الصدور، فتفسح مجالاً للعقول كي تشتغل، بعدها يمكن الشروع بتنفيذ نتائج المفاوضات، فالوطن ليس حكرًا على فئة دون أخرى، والأرواح التي زهقت كلها سورية، وكلها مرهونةٌ لأجندات أو عقائد أو مشاريع، وكل الأطراف أصبحت متورّطة بالدم السوري.
"يجب الآن أن تواجه لكن بروح الطريق الذي يؤكد على السلام الاجتماعي".. هكذا قال الطيب تيزيني، ربما اختصار زمن الحرب المتمادية في كبرها يمكن أن يساعد في رتق الجروح العميقة، والوصول إلى سلام اجتماعي يساعد الشعب في أن ينهض، ويساهم مُجتمِعًا في بناء وطنه. لن يكون اختصار زمن الحرب إلاّ بابتكار آلية أخرى للتفاوض، تقودها مجموعة أخرى غير المجموعات الحالية، مجموعة "البيادر الشعبية"، وليست مجموعة المنصات "المتعالية" حتى بتسميتها، ولا بأس أن يكون العنوان من أجل إنقاذ ما تبقى: "تحت سقف التصادم وفوق مستوى التسليم". حينها، كرمى لعين الوطن، يمكن للشعب السوري أن يقيم عدالته الانتقالية الخاصة.