13 نوفمبر 2024
تحديات العراق بعد الانتخابات
لا ينتظر العراقيون من برلمانهم القادم أن يجترح حلولاً عجائبية لمشكلاتهم التي تشبه أمراضاً مزمنة، لا ينفع معها سوى الكي. وفي المقابل، ليس المرشحون العشرة آلاف الذين يتنافسون على 328 مقعداً، في وارد اجتراح حلولٍ لتلك المشكلات، كل همهم الحصول على ما يحققه لهم الجلوس على كرسي البرلمان من مغانم، وما يتيحه من نفوذ. وقد اعتبرت صحيفة "ديلي ميل" البريطانية البرلمان العراقي "أفسدَ مؤسسةٍ في التاريخ"، حيث يتقاضى العضو فيه ألف دولار عن كل دقيقة عمل حقيقي، بعد حساب معدل عمله عشرين دقيقة في الشهر، ولا يشمل ذلك مخصصاته وامتيازاته الأخرى!
بوحي من هذه المفارقات الصارخة، بدأت "لعبة الكراسي الموسيقية" تفقد متابعيها الذين انصرفوا عنها، بعدما أصابهم الضجر والقرف من عبثية المشاهد وتكرارها. ولم تعد هناك آمال معلقة على العملية السياسية التي أسسها الأميركيون، والقائمة على المحاصصة الطائفية، والتي حملت، منذ ولادتها، بذرة عدم الاستقرار، وأغرقت العراق في دوامةٍ، لا نهاية لها من العنف والعنف المضاد. ومع أن أحد عشر عاماً لا تساوي شيئاً في حسابات الشعوب، إلا أن اليأس تسرب إلى العراقيين الذين أدركوا صعوبة حدوث أي تحول حقيقي في المشهد الماثل، وبعدما تحول العراق دولةً فاشلة، ينخر فيها الفساد، وتنعدم فيها ضرورات الحياة، وتغيب الخدمات التي ينبغي أن تقدمها الدولة لمواطنيها.
وفي بلد هشٍّ زاخرٍ بخزينٍ غير محدودٍ من مشاعر العنف والتطرف، ومثقلٍ بنزاعاتٍ طائفيةٍ وعرقيةٍ وعشائريةٍ، ذلك من شأنه أن يفتح الطريق للتدخلات الخارجية، من الجيران ومن الدول البعيدة، وأن يصنع "لوبياتٍ"، تسعى إلى فرض أجندتها على "الدولة الفاشلة"، عبر أفرادٍ أو أحزابٍ من الطبقة السياسية، وهذه، في الأصل، طبقة مهزوزة وخانعة ومطيعة لمن يدفع أكثر. وبلد كهذا يشكل مرتعاً خصباً للجماعات الإرهابية والمافيات والميليشيات الطائفية والعشائرية، ويخلق، على الدوام، بؤراً للصراع والتوتر، تزيد من المخاطر المحيطة به.
وتعتبر الانتخابات في أي بلد نقطة انطلاقٍ نحو مرحلةٍ جديدةٍ، يشعر المواطن فيها بأنه مشارك، فعلاً، في رسم السياسات العامة، وصاحب موقف في حلولٍ تطرح لمشكلات بلاده، ويعطي صوته لمن يريد تفويضه، نيابة عنه في إدارة الشأن العام. لكن، ما يجري في العراق لا يبدو كذلك، إذ إن الظروف التي أحاطت بتطوراتٍ حصلت، بعد احتلال العراق، أفرزت أكثريةً صامتةً رافضةً العملية السياسية، وساعية إلى إقرار عمليةٍ سياسيةٍ وطنيةٍ، إلا أنها ماتزال تفتقر إلى القيادة الحازمة، والإدارة الذكية لفعالياتها، وماتزال عرضةً للتشرذم والانقسامات التي تعيقها عن أداء دور نشيطٍ وفاعلٍ في المجتمع، باتجاه رفض ما هو قائم، وتأسيس وضعٍ جديدٍ، يعبر عن مصالحها وطموحاتها، والعمل على إنضاج هويةٍ عراقيةٍ موحَّدة (بفتح الحاء) وموحِّدة (بكسرها).
من دون ذلك، هل يمكن للفئة الحاكمة أن تتنحّى من تلقاء نفسها، أو أن تتخلى، بسهولةٍ، عن امتيازاتها ومصالحها الخاصة، حتى لو كانت مدركةً أنها غير قادرة على مواجهة التحديات التي تلوح في الأفق، وهي تحديات مهددة لبقاء العراق، ودوام وحدته الجغرافية، وتعايش أبنائه؟
لا أعتقد ذلك، لأن رجال السياسة تحركهم، في العادة، أهواؤهم، أكثر مما تحركهم عقولهم، كما يقول توماس هوبز. وأكبر تحد تواجهه حكومة العراق المقبلة هو بناء الدولة، وفي موقف طائفي لافت، يعلن رئيس الحكومة الحالي، نوري المالكي، وهو طامع بولاية ثالثة، تصميمه على بناء ما أسماها "دولة أهل البيت"، بعد فشل دولة "الشراكة الوطنية"، على حد تعبيره. وهدّد "أنصار يزيد الذين يصطدمون مع أنصار الحسين، بمواجهةٍ شرسةٍ عنيدة"، بحسب توصيفه لهم في خطابه في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وفاتحاً أبواب جهنم على كل العراقيين. ويشكل تأكيد البرزاني قرب إعلان الدولة الكردية المستقلة، ومطالبة أكثر من محافظة عراقية باعتبارها إقليماً مستقلاً، مغادرة مرحلة التسويات الهشة التي عاشها العراق منذ الاحتلال.
وإذ يتقدم العراق قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم، فإن القضاء على الفساد والاقتصاص من المفسدين يشكل التحدي الآخر الذي تواجهه حكومة ما بعد الانتخابات. الحيتان الكبيرة التهمت أموال العراق المنهوبة التي تبلغ تريليونا وأربعين مليون دولار، حسب هيئة النزاهة العراقية، أي ما يعادل ضعفي ميزانيات السعودية والإمارات والكويت وقطر مجتمعة. وقد شارك وزراء ونواب ووكلاء وزارات وأصحاب درجات خاصة في تهريب الأموال المنهوبة وهربوا معها!
وإلى هذا الأمر، هناك مواجهة مشكلات العنف والجريمة المنظمة وانعدام الأمان والبطالة وتردي الخدمات، وتحسين شروط الديمقراطية والمواطنة الصحيحة، وإعادة العراق إلى محيطه العربي، وهذه قضايا أمام أية سلطة قادمة، لكن السلطة، كما يقول برنارد شو، كثيراً ما تستقر في أيدي العاجزين عن الحلول، وهذا ما يحدث في العراق اليوم.
وفي آخر المطاف، هل يستطيع العراقيون انتظار أربع سنوات أخرى، لكي يتم عرض مشهد آخر من "لعبة الكراسي الموسيقية". لا أظن ذلك. ما الذي سيحدث إذن؟
لست متنبئاً، ولا أعتقد بالتنجيم، أو قراءة الحظ في فنجان القهوة، ولكنني واثق من أنه إذا لم تعمد الحكومة المقبلة التي ستنبثق عن انتخابات الثلاثين من إبريل/ نيسان الجاري إلى مواجهة التحديات المصيرية التي تجدها ماثلة أمامها بشيء من الحكمة والتبصر ونكران الذات، فإن أموراً كثيرة سوف تحدث، لعل أحدها هو تفكك العراق وتشظيه.. عندها، لن نجد أحدا لنلقي باللوم عليه.