غير أن ما تكشفه أروقة الحركة ونقاشات قياداتها وقواعدها في الفترة الأخيرة، تقود إلى الاعتقاد بأن هناك خلافات جوهرية بين بعض أعضائها، حول هوية الحركة وشكلها التنظيمي الجديد، عكست أيضاً صراعاً خفياً على مراكز النفوذ، يهيئ لمرحلة ما بعد رئيس "النهضة" الحالي راشد الغنوشي.
وتمكّنت الحركة حتى الآن من إنجاز 279 مؤتمراً محلياً، تم خلالها انتخاب 5234 نائباً لمؤتمرات المناطق، التي تنطلق في غضون أيام، استعداداً للمؤتمر العام الذي قد ينعقد نهاية إبريل/نيسان أو بداية مايو/أيار، وفق ترجيحات قيادات من الحركة لـ"العربي الجديد"، على الرغم من أن المكان لم يتحدد بعد بحكم البحث عن فضاء يمكن أن يحتضن كل المؤتمِرين والضيوف. وتقول هذه القيادات إن هناك توجهاً داخل الهيئة التنظيمية ليكون المؤتمر "تقشفياً" بحكم الظروف الحالية للبلاد والحركة.
وأجاز مجلس شورى الحركة أخيراً، كل اللوائح والأوراق السياسية والفكرية لتُعرض على مؤتمرات المناطق لمناقشتها قبل رفعها للمؤتمر العام، ورُحّلت المسائل الخلافية بدورها إلى المؤتمر ليتم الحسم فيها، وتتمثّل أساساً في نقطتين جوهريتين: فصل الشأن الدعوي عن السياسي، وتنظيم الحركة الهيكلي.
وبعدما تم التوافق على أن ينتخب المؤتمر رئيس الحركة، بقي الخلاف الكبير حول كيفية تحديد أعضاء المكتب التنفيذي، وهل يتم تعيينهم من قبل الرئيس، كما هو معمول به في الحركة حتى اليوم، أو يجري انتخابهم من مجلس الشورى؟ ويذهب عدد من القيادات التي تدافع عن الخيار الثاني، إلى أن الهدف منه جعل الخيارات أكثر ديمقراطية داخل الحركة، وإعطاء سلطات أوسع لمؤسسة الحركة المركزية (مجلس الشورى أو المجلس الوطني إذا تم تغيير الاسم). لكن هذا الشعار الكبير، الديمقراطية الداخلية، يبدو أنه يخفي رغبات واضحة في التموقع داخل الحركة، وفي الحد من حجم نفوذ الرئيس، وخلافاً شخصياً مع الغنوشي حول الخيارات الكبرى التي أقرها وطنياً، ودفع إليها الحركة دفعاً.
يعود أصل الخلاف إلى مرحلة الحوار الوطني، واعتصام باردو، وخروج الترويكا التي قادتها "النهضة" من الحكم، ودخولها في مرحلة ما سمي بالتوافق التونسي، وما تلاها من خيارات هامة في الدستور ومنع قانون العزل السياسي، ثم الانتخابات الرئاسية، والدخول مع الغريم الأكبر، حزب "نداء تونس"، في تحالف حكومي، والاستبسال في الدفاع عنه.
اقرأ أيضاً: انشقاق "النداء" يدفع النهضة لتصدر المشهد البرلماني "تحت الإكراه"
وتختلف بعض القيادات مع كل هذه الخيارات، التي ترى أن الغنوشي قاد إليها الحركة ولم تنبع منها، ولكنها تدرك أيضاً أن غالبية قواعد الحركة قد تبنّتها، بعدما لاحظت صوابها، ومكّنت الحركة من أن تبقى رقماً مهماً في الحياة الوطنية، ولم يصبها ما أصاب غيرها من الأحزاب، وأبقت على "النهضة" حزباً قادراً باستمرار على المنافسة على الحكم، وأهلتها من جديد لقيادة الأغلبية في البرلمان. وإذا ما تم تغيير موقع الغنوشي والحد من قدرته على اتخاذ القرارات الجوهرية في لحظات صعبة، وهي ميزة الوضع السياسي التونسي اليوم، فإن هذه الخيارات قد تتم مراجعتها، بما قد يهدد كامل المسار الوطني.
غير أن الخلاف في جوهره يعكس مسألة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، اذ إن الإبقاء على صلاحية الرئيس في اختيار جهازه التنفيذي لمدة أربع سنوات، يعني أنه سيهيئ لخليفته وسيرسم ربما مسار القيادة الجديدة في المستقبل. وهو ما تخشاه بعض القيادات في "النهضة"، التي لا تتكوّن مما يسمى بمساجين الداخل، كما أشيع، وإنما تضم اليها وجوهاً مختلفة، حتى من الموافقين على بعض خيارات الغنوشي والمعروفين بنَفَسِهم الحداثي، ما يعني أن الخلاف هو بالأساس خلاف تموقع في مستقبل الحركة.
وتفيد معلومات حصلت عليها "العربي الجديد"، أنه تم رفض مقترح كان يقضي بانتخاب رؤساء مجالس المناطق وانتخاب رئيس الحركة من قبل كل منخرطيها في كل المناطق، والإبقاء على انتخابه خلال المؤتمر، ولعل الرافضين كانوا يخشون من قياس شعبية الغنوشي وخياراته لدى قواعد "النهضة".
غير أن هذه الخلافات التي بدأت تخرج من داخل أسوار الحركة، تعكس أيضاً رغبة لدى هذه القيادات في إعطاء دور رقابي أكبر لمجلس الشورى، وهو قلب الحركة، وتسعى لأن يكون القرار النهضوي قراراً أغلبياً ينبع من كل قياداتها لا قائدها فقط، وهي رؤية تبدو مفهومة، على الرغم مما قد تحمله من طموحات أيضاً.
لكن هذا الخلاف الجوهري يعكس تغليباً للتوازن داخل الحركة على التوازنات الوطنية. ويطرح معارضو الرغبة في تقليص سلطات الرئيس ومنحها لمجلس الشورى، سؤالاً هاماً: ماذا لو طرح الغنوشي موضوع الحوار الوطني على الشورى الرافض في ذلك الوقت، وماذا لو عرض مسألة الانسحاب من الحكم بعد صراع باردو، وإلى أين كانت ستسير تونس والحركة؟
ويطرح الخلاف الثاني، الأقل تعقيداً في الواقع، أسئلة مهمة تتعلق بمدى رغبة القيادات والقواعد النهضوية في التخلص من الأيديولوجيا، وفصل الدعوي عن السياسي، على الرغم من أن أغلب قيادات "النهضة" قد قطعت أشواطاً كبيرة في إقناع الجميع بجدوى هذا الفصل، إلا أن البعض متخوّف من أن تخسر الحركة شيئاً من هويتها، وكثيراً من قواعدها.
غير أن تأثير هذا القرار لن يكون داخلياً فحسب، إنما سيتجاوزه إلى فضاء الإسلام السياسي بشكل عام، الذي تبدو "النهضة" في موقع قيادته فكرياً بحكم مساءلتها إياه باستمرار، مستمدة شرعية ذلك من نجاحها حيث أخفقت حركات أخرى. ويبرز في هذا الصدد قول الغنوشي منذ حوالي العام: "نحن لم نزعم لأنفسنا احتكار الإسلام بل نعتبر قولنا اجتهاداً من الاجتهادات، نُصيبُ فيه ونُخطئ، وكنا من أوائل من أصَّل في الساحة الإسلامية في العالم لمبدأ التعددية والاعتراف بالأحزاب غير الإسلامية فضلاً عن الإسلامية". ولعل هذا الأمر يعكس بعض أسئلة الحركات الإسلامية حول طبيعة العمل السياسي ومقتضيات الديمقراطية العربية الحديثة.
اقرأ أيضاً: النهضة التونسية تحدد موعد مؤتمرها العاشر