يستعد جيش الاحتلال لعرقلة عمل اللجنة التي شكلها مجلس حقوق الإنسان للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل خلال العدوان الأخير على قطاع غزة، عبر الشروع في إجراء تحقيقات في حوادث قتل فيها مدنيون فلسطينيون خلال الحرب؛ لا تتجاوز الخمس حالات، بعدما قتل أكثر من ألفي فلسطيني وجرح الآلاف وشردهم ودمر البنى التحتية للقطاع المحاصر.
وبحسب مزاعم الجيش، فإنه تقرر فتح تحقيقات جنائية في خمس حالات قتل، من أصل 99 حالة ارتكبت خلال الحرب. ومن خلال التصريحات الرسمية التي صدرت عن كبار المسؤولين الصهاينة المعنيين بهذا الملف، فإن الهدف من التحقيقات ليس الوصول إلى الحقيقة، بل توفير كل الظروف التي تقطع الطريق على محاكمة مسؤولي الاحتلال السياسيين والعسكريين أمام المحاكم الدولية كمجرمي حرب.
وفي هذا السياق، قالت وزير القضاء تسيفي ليفني، إن قرار الجيش بفحص بعض الحوادث خلال الحرب جاء من أجل "توفير مظلة قانونية" للدفاع عن الضباط والجنود. ونقلت إذاعة الجيش الإسرائيلي عن ليفني، يوم الجمعة، قولها إن إسرائيل "ملتزمة بالدفاع عن الضباط والجنود الذين أرسلتهم لتنفيذ العمليات العسكرية، وفعل كل ما في وسعها للحيلولة دون تعرضهم لملاحقات دولية".
ورأى عدد من كبار القانونيين في إسرائيل، أن قرار الجيش التحقيق فيما ينسب إليه من أفعال لا يتوافق مع القانون الدولي. وقالت رئيسة "مركز كونكرد لتطبيق القانون الدولي" في كلية الإدارة في تل أبيب البرفسورة فرانس راندي، إن الاستجابة لمعايير القانون الدولي الإنساني تفرض على إسرائيل تشكيل لجنة تحقيق مستقلة، إذ لا يمكن للجيش أن يحقق في أفعال متهم بارتكابها.
وأشارت كونكرد في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرنوت" الأربعاء الماضي، إلى أن أي لجنة تحقيق قانونية في الحرب يجب أن تحقق في مسؤولية دوائر صنع القرار السياسي في تل أبيب عن أفعال جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وبحسب منطق راندي، فإن كلاً من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الحرب موشيه ياعلون وجميع الوزراء في المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن، يتحملون المسؤولية الأساسية عن كل ما ارتكبه الجيش ضد المدنيين الفلسطينيين خلال الحرب، على اعتبار أن جميع العمليات التي نفذها جيش الاحتلال خلال الحرب تم إقرارها مسبقاً من قبل المستوى السياسي.
ومن الواضح أن قرار قيام الجيش بالتحقيق في جرائمه يأتي كجزء من استخلاص إسرائيل للعبر من حربها على غزة في عامي 2008 و2012.
فقد نقلت القناة الإسرائيلية الثانية، الخميس الماضي، عن مصدر في قسم القانون الدولي في النيابة العسكرية الإسرائيلية، لم تسمه، قوله إن قرار شروع الجيش في التحقيق في أفعاله خلال الحرب يساعد على مواجهة الاتهامات التي قد توجهها لجان التحقيق الدولية.
ووفق المصدر نفسه، فإن الخطوة التي أقدم عليها الجيش قد تساعد إسرائيل على تبرير قرارها القاضي بعدم التعاون مع لجنة التحقيق التي شكلها مجلس حقوق الإنسان الدولي برئاسة البرفسور وليام شافيس، بزعم أن اللجنة غير موضوعية، وأن شافيس يتبنى مواقف عدائية مسبقة من الاحتلال.
في المقابل، رأى قانونيون إسرائيليون أنه حتى لجنة "شافيس" لن تحقق "العدل" المرجو منها في حال لم تنطلق من افتراض مفاده أن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية هو السبب الرئيس في تفجر العنف، وأن كل أشكال العنف التي تصدر عن الفلسطينيين هي نتاج طبيعي لهذا الاحتلال.
وفي هذا السياق، حذّر مدير "مركز المعلومات الإسرائيلي حول حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة" (يتسيلم)، موشيه إليعاد، قي مقال نشره موقع "ولّا" الإخباري، يوم الخميس، من مغبة السماح لإسرائيل بأن تفرض روايتها للحرب عبر الادعاء بأن إقدام حركة "حماس" على إطلاق الصواريخ يبرر قيامها بالردّ على هذا النحو، مشدداً على أنه يتوجب على أي لجنة تحقيق دولية أن تأخذ بعين الاعتبار أن أي سلوك "عنفي" للفلسطينيين يأتي كردة فعل على الجريمة الكبرى الممارسة ضدّ الشعب الفلسطيني الممثلة في الاحتلال الإسرائيلي نفسه.
ولا يطالب إليعاد بالتحقيق فقط في جرائم إسرائيل خلال الحرب، بل يصرّ على ضرورة أن يشمل التحقيق جميع أنماط العنف التي يمثلها الاحتلال، والتي تتمثل في الحصار ومصادرة الأراضي وتقييد حرية الحركة، ومنع تطور المدن والبلدات المدن، وقمع مظاهر الاحتجاج السلمي التي ينظمها الفلسطينيون بعنف.
ودعا إلى عدم الوقوع في الفخ الصهيوني والقبول بأن ينحصر عمل لجان التحقيق الدولية في تحديد مبدأ "التناسب" في استخدام القوة خلال الحرب، أو تحديد معايير "الهدف الشرعي" الذي يجوز لجيش الاحتلال الإسرائيلي توجيه ضربة له.
واستهجن إليعاد أن يجرؤ الجيش على التحقيق في جرائم اقترفها، مشيراً إلى أن التجربة دلّت على أن الجيش لا يمكن أن يدين نفسه. وتساءل "كيف يكون بإمكان المؤسسة التي أصدرت أوامر إطلاق النار في الحرب أن تحقق في قتل المدنيين الفلسطينيين"، مشيراً إلى أن الجيش منح مسبقاً ضباطه وجنوده مسوغاً قانونياً لتنفيذ ما نفذوه قبل شروعهم في عمليات إطلاق النار.