أؤمن بالمطلق بعدم صحة ما جاء به الطبيب الفرنسي "فرانسوا كه نه" حول أن الزراعة هي النشاط الاقتصادي الوحيد الذي يشكل المنتج الصافي، وأنها، أي الزراعة، الوحيدة القادرة على خلق الثروة بشكل لا محدود.
لأن عصر الصناعة والخدمات نسف المدرسة الفيزوقراطية من جذورها، أو لجهة مفهومي "المنتج الصافي وأن الصناعة والنقود ثروات عقيمة" على الأقل، وربما، مضيعة للوقت، أن نقارن بين دور الزراعة والصناعة لجهة النمو والتنمية أو نبحث في عائدية الصناعة وما تحققه من قيم مضافة على المادة الأولية وما تؤمنه من دخول للعمالة وقطع أجنبي جراء التصدير، مع قطاع الزراعة.
بيد أن كل هذا لا يلغي أهمية نظرية الفيزوقراطيين وإن خلال مراحل محددة أو استثنائية، يمكن خلالها للمستهلكين، وإن اضطرارياً، الاستغناء عن مجمل ما هو خدمي وصناعي، بل وإدراجهما في خانة الكماليات، كتلك التي يعيشها السوريون اليوم، إذ ليس المقاتلون الذين يواجهون الأسد وأعوانه، وحدهم من يمشون على بطونهم، بل كل من آثر البقاء في بلده، كي لا يقف على الحدود وأبواب اللئام، أو كي لا تصادر أملاكه لمصلحة الوافدين الجدد، ليقتصر الوطن على مفتاح صدئ، يحتفظ به في حقيبة قديمة، أو يعلقه بعنقه كما الإخوة الفلسطينيين.
قصارى القول: بدأ موسم حصاد الحبوب بسورية الآن، وبدأت أشجار خير الشام تطرح غلالها، رغم سنوات الجفاف وهجران المزارعين، وربما من ضرورة التذكير، لمن يجهل الزراعية السورية، أن إنتاج القمح تربع على عتبة 4 ملايين طن لسنوات وزاد محصول القطن السنوي عن مليون طن وكذلك الحمضيات والزيتون.
ولأن تنوع المناخ لأربعة فصول حافظ على استمراريته في سورية التي لا تزيد مساحتها عن 185 ألف كيلو متر مربع، مشفوعاً بتربة بركانية حمراء بمعظم أراضيها الزراعية، فليس من منتج زراعي محرّم على أرض الشام، ففيها ثروات من الزراعات الدوائية واللوزيات والبقوليات والأعناب، بل وحتى بعض الزراعات التي قد يظن العارف بالجغرافيا والمناخ أن زراعتها بسورية محض مجازفة، كالكيوي والمنغا وحتى الموز.
إلا أنه، ورغم كل هذا، ثمة جوع يعانيه السوريون، أوصل الأشقاء قبل من يدعي الصداقة، ليختصروا قضيتهم بمعداتهم ويجعل من لاجئيهم مصدر تسول واسترحام، عبر المنابر وفي المحافل الدولية.
نهاية القول: جلّ الأراضي والثروة الزراعية خارجة عن سيطرة نظام بشار الأسد، لكنه رغم ذلك يحاصر بعض المناطق الزراعية، بل ويسعى للسيطرة على خزانات سورية الغذائية، بعد أن تراجعت سيطرته لمراكز المدن، كما فعل قبل أيام خلال سيطرته على عشر مدن بغوطة دمشق، تعتبر خزان غذاء العاصمة وسبب صمود مقاتليها وأهلها لخمس سنوات.
بل ويستمر الأسد بالتحايل على استحواذ المواسم الزراعية، ليس لكفاية مناصريه وتجويع السوريين فحسب، بل وليصدر لحلفائه في موسكو وبيروت وبغداد، فهنا يبرم صفقات مع من يسيطر على مدن الجزيرة السورية "الرقة، الحسكة ودير الزور" من تنظيمات كردية وتنظيم "داعش" وهناك يرفع من سعر استلام المواسم كما فعل مع القمح قبل أيام.
وفي المقلب الآخر، نرى أن آخر اهتمام ممثلي المعارضة، أن يلتفتوا إلى الزراعة ليؤمنوا إكسير بقاء للمقاتلين ومن آثر البقاء، متذرعين بعدم توفر السيولة وقطع مساعدات الأشقاء حيناً، ومعتمدين على المساعدات الإنسانية الأممية بقية الأحايين، ما جعل من جوع السوريين أحد أسباب فقدانهم زمام قرارهم والتزامهم بما يمليه الممول ومانع سقوط الأسد.
اليوم، ومع حكومة جديدة كل ما يرشح عنها جدية الانتقال من بلاد المهاجر إلى الداخل السوري، يتعاظم الأمل بإيلاء الزراعة أولاً ما تستحق، لأننا على أبواب المواسم.. ومن ثم ينتقلون لباقي الثروات المهدورة، من نفط وطاقات بشرية ومنشآت صناعية، حتى وإن كانوا لا يؤمنون بالفيزوقراطية.