تداعيات مفزعة!

21 يونيو 2018
+ الخط -
حاولَ أن يُبحر أكثر فأكثر في وجدانها، مؤكداً عشقه لها رغم تجاهلها له، فكتب مخاطباً:

(يا جميلتي.. هل أنتِ ساحرةٌ بوجدانكِ الرفيع؟ أم رائدةٌ بإحسانكِ المتواضع؟ أم بريئة بخطواتكِ المتوثبة الهادئة، التي أجدُ أنها جزءٌ من إغراءاتك التي أوقعتني بمصائِدك؟ أم أنَّ الذي زاد من ارتباطي بكِ عنجهيتك، التي أرى أنك بعيدةٌ عنها.. ويبقى لنضارة وجهكِ السموح الإطلالة، وانتمائك لأسرة محافظة، وتميّزك عن بقية أقرانك، من هم من صُلْب جذورك، زاد من قناعتي بك أكثر فأكثر.. هذا كلّه أسّس لهذه الشابة الوسيمة المحيا، الخجولة بطباعها، الندية الوجنة ـ غير المنْصِفة ـ التي وقفت عاجزةً عن قذف كبريائها بحضن مَنْ أحبها.. وهذا ما أرادت).

محاولات البوح هذه التي أفاضها لم تُثمر شيئا جديدا حيال هذا الهياج النفسي الذي عاشه فترةً من الوقت، بينه وبين نفسه، حتى يتمكن من إيصال فحوى ما يدور بخلده إلى من أحب دون جدوى.

ذات مرّة، واجه الموقف بكلّ حزم، دخل غرفتها وأطل عليها بتحية وردت بمثلها، وفوجئ بخروجها من الغرفة مباشرةً دون أن تكترث به.


هذا التصرف أصابه بإحباط شديد، حاولَ أن يفهم بأن هذا الفعل ربما جاء صدفة.. واستمرت المحاولات، وبقي هذا الحلم الوردي متيقظاً أينع بداخله حبّاً لم يُثمر بعد، وانتظاره لها قد يطول وقد يقصر، وما زال مصرّاً على متابعة خطواتها، والامتثال لسحر عينيها الشغوفتين، وبُحة صوتها في بعض ما تقوله بلسانها، ولطولها الفارع، وأناقة هندامها الملفت وزهو أنوثتها، ما يضفي على وجدانه عشقاً قد يُزهر حبّاً في قلبها.

محاولات كثيرة وأخرى لم تُجدِ، إلّا أنَّه أصرّ على الدخول إلى قلبها، عنوةً، رغم ما يُحيطُ به من قيود تقفُ أمام نقل خطواته التي تسمّرت في مكانها، وفجأةً تحوّل الموقف إلى حوار شابه التحدّي، وإن كان على غير عادته، هذه المرّة، إلّا أنّه أخذ أبعاداً اختلفت فيها الموازين التي حدّدت هذه السوية لتلك الفتاة التي كان يرى فيها الكثير من الرقّة والأنوثة، والخجل المفرط، الذي ما إن انفجر، حتى دعاها الموقف لهذا التصرف المبتذل والرخيص، وإن كان لا يستدعي كل هذا التهجّم، وهذا الاندفاع الذي أظهر في الواقع عدم إدراكها، وتفهمها للعلاقات الإنسانية، الوجدانية ـــ الحضرية، التي تربط بين الناس عموماً، وبين الرجل والمرأة بصورةٍ خاصة.

كان الانفجار في مساء يومٍ مشؤوم، وكانت النهاية لعلاقة شابها الإخلاص والوعي، من طرف واحد، قوامها الصدق والمحبة الخالصة، والاحترام لشخصية حملت في اهابها الودّ، إلا أنَّ تجلّي الصورة بهذا التداعي المفزع، تركَ الكثير من إشارات الاستفهام، وعلامات التساؤل حيال تلك الشابة التي لا تزال لها مكانتها في وجدانه، وإن تجاوزت بتصرفها هذا حدود المعقول، وكشّرت عن أنيابها.

ويبقى للروح التي أثارت هذه القضية وتحديّها، بعض الأمل في محاكاة جديدة، فرحة، تغسل ما كان بدر من كل هذه التيارات، المناوئة، وإبطاء حركة جريانها في هذا الوجه الصدئ، الذي لا يمتثل بكل أوجهه المطلية إلا لقلّة من المخلصين.

لقد مادت الأرض تحت قدميه، وهو يرى الوجه البشع الذي كانت ترتديه نتيجة ذاك الموقف الذي حدث في مساء يومٍ معْلَن!!

فاللقاء الذي كاد أن يجمعهما تحوّل فجأةً إلى حوارية متأججة، نارية، استوعب كلماتها الجارحة بتواضعٍ جم، وتقبّلها بكلِ عنفوان، وبقي كبرياؤه يُعذّبه نتيجةَ هذا اللقاء الذي لم يكن يتوقعه أن يكون بهذا الأسلوب الجاف الذي أشار إلى أن هناك أسراراً عميقة، وعميقة جداً، تحتفظُ بها لنفسها لم تُعلن عنها بعد!

تصرّف، وإن كان يُجسّد التجنّي الذي لم يكن من حقّها، وإن مثل هذا الموقف المتصف بالحُمق والانفعال لا يمكن أن يبدر عن فتاة متزنة، تحمل، للوهلة الأولى، الكثير من صفات النبل والأصالة، المتحدرة من جذور عميقة، مشهود لها بالوعي والمعرفة والتبصّر.

صورة ما حدث، تنمّ عن تفاهة الموقف، وقصر النظر، لهذه الشخصية التي كان يرى فيها ملامح إنسانية متحضّرة وراقية، لكن الموقف المفاجئ كشف عن حقيقة مخيفة فيها صورة لشخصية مهزوزة العواطف، غير مبالية، متقلّبة المزاج!

وتبقى حقيقتها باعتقاده، لا لبس فيها، وتصرّفها هذا يُوحي بسذاجة متأصلة فيها، وإن تحمّلت مساوئ الدهر، والزمن الذي تركها عُرضةً لهذا الموقف الحزين المؤلم، وقفت حياله متأسفةً بينها وبين نفسها، كما هو عهده بها، حاملةً لبذرة الخير الذي افتقده، والالتزام الذي طواه الزمن، وتمنى أن يكون موقفها بغير هذه السلبية المخجلة التي ظهرت بها، وكشفت عن هوية شابة متشائمة، متأثرةً بالمحيط، فاقدةً الأمل بفارس الأحلام الوردية الذي طال انتظاره.

وها هي الشمعة تُطفئ شعلتها ببطء شديد، متأثرةً بالصديقات، المثل، اللاتي كسبن الوقت، وشموع المستقبل، الأطفال، الذين هم نُسغ الحياة وأملها الذي لا يمكن الاستمرار دونه، وإن لم يكن لهذه النهاية أن تستمر بمثل هذه السوية التي كان يرى فيها الروح التي أعادت إليه بريق الأمل، الذي افتقده خلال السنوات التي قضاها في رحاب بهو عميق، لمْ يَصحُ منه بعد، وفي قرارة نفسه، فإنَّ الأمل ما زال تحقيقه يحتاجُ لوقتٍ طويل، وطويل جداً، وقد يدوم فترة أطول دون مبّرر، فأيّ نهاية يمكن أن يعي تجديدها، ما دام أن الصورة استمرت هامشية، بالرغم من وضوحها.

وبقي السؤال محيّراً وحاضراً في مخيلته، لماذا هذا الموقف؟ هل هو الإرث الشخصي لها؟ أم القيود الاجتماعية التي تحكم وتحدّد نظرة الإنسان بعيداً عن وعيه ومعرفته؟ أم أنَّ الصورة الجميلة التي أرادها أن تكتمل انكسرت، ولم تنْفَع معها الإغراءات التي قدمها، والتنازلات الكثيرة التي حطّت من شأنه؟ وهذا ما أثار تياراً عكس جميع المزايا التي حاول أن تكون في متناول يدها، ليتوّج هذه الحب بزواج ظن أنَّه موفق، إلا أنَّ الحبّ العميق الذي حمله لها ما زال مزهراً في قلبه، لم يذبل بعد!!
دلالات
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.