اعتبار محكمة استئناف بريطانية حكومة لندن مسؤولة ضمنياً عن انتهاكات للقانون الإنساني الدولي، عبر تصدير الأسلحة المستخدمة في الحرب اليمنية، ليس بتطور بسيط في سياق العلاقة التاريخية بين الرياض ولندن، ولا في حجم ما تصدّره الأخيرة لحليفتها الخليجية. اعتراضات وزير التجارة البريطاني ليام فوكس على قرار المحكمة، يأتي أيضاً على خلفية أن الرياض تستورد نحو 43 في المائة من صادرات السلاح البريطاني (وهي تحتل المرتبة السادسة عالمياً على قائمة أكثر منتجي ومصدري السلاح) خلال العقد الأخير لوحده، وفقاً لتقارير متخصصة، كمعهد استوكهولم لبحوث السلام (سيبري).
نقطة التحوّل
قبيل اغتيال خاشقجي في 2 أكتوبر، لم تكن الأصوات الأوروبية، التي تشمل منظمات حقوقية ومؤسسات إعلامية وتشريعية ورأياً عاماً، مدفوعة بتغطية إعلامية للحرب في اليمن، بهذه الحدّة التي تشهدها الأيام الراهنة، متنقلة من بلد إلى آخر، مع اتساع رقعة الداعين لوقف إمداد الرياض وأبوظبي بالسلاح والتقنيات، التي تستهدف النشطاء الحقوقيين والصحافيين وعموم المواطنين.
تزايد الدعوات لوقف توريد السلاح إلى الرياض، وحتى مراجعة عقود صفقات موقّعة معها منذ ما قبل 2015، تأتي على خلفية استمرار الحرب اليمنية لسنوات وارتفاع المأساة الإنسانية الناجمة عنها. كما فجّر اغتيال خاشقجي مخاوف عميقة عن نوعية القيادة التي تحكم الرياض، بسجل حقوقي مقلق للغربيين ومؤسساتهم.
ألمانيا مثلاً، بقيت لعقود تورد السلاح والذخيرة للسعودية، من دون أن يثير ذلك جلبة كبيرة كما يحصل حالياً. وبحسب مراكز أبحاث سويدية وبلجيكية عن قيمة صادرات سلاح الاتحاد الأوروبي للسعودية، فقد ارتفعت من نحو 22 مليار يورو عام 2002 إلى نحو 37 مليار يورو في 2013. وبين الأعوام 2013 و2017 جاءت السعودية والإمارات ومصر والعراق والجزائر، في مقدمة الدول العربية المستوردة لسلاح أوروبا. وإلى جانب بضعة دول أخرى، فإن نصيب هذه الدول من السلاح المصدر عالمياً لا يقل عن 31 في المائة، فيما هو لا يقل عن 40 في المائة من المملكة المتحدة إلى السعودية وحدها.
وتُعتبر الإمارات والسعودية بالنسبة لفرنسا من كبار العملاء الشرق أوسطيين في مجال مبيعات السلاح، فباريس التي تحتل المرتبة الثالثة عالمياً لجهة تصدير الأسلحة، باعت في 2018 فقط أسلحة للرياض والإمارات بأكثر من 9 مليارات يورو. وما يقلق البرلمانيين ومنظمات غير حكومية فرنسية، أن باريس غير موقّعة على معاهدة تجارة الأسلحة (ATT)، التي تحظر الصادرات في حالة التعرض لخطر انتهاكات القانون الإنساني الدولي، وهو أمر يخفف منه الرسميون الفرنسيون بالقول إن هذه التجارة تخضع لإشراف ومراقبة صارمة، وإنه "منذ بداية النزاع في اليمن تتم دراسة أذونات التصدير بيقظة متزايدة ومعايير أكثر تقييداً"، كما أكد وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان في مايو/ أيار الماضي.
وعلى الرغم من المنافع المالية الكبيرة للصناعات العسكرية الأوروبية، إلا أن الرياض باتت تحت ضغط علني ومستمر برفض عمال بعض الموانئ الأوروبية تحميل السلاح لبواخرها، وتصاعد الاحتجاجات في الشارع، والتقدّم بقضايا مستعجلة أمام المحاكم لإجبار الحكومات الأوروبية على وقف التصدير للرياض.
تداعيات الجريمة
وشكّل الكشف المتتالي عما دار خلف جدران القنصلية السعودية في إسطنبول من إعدام وحشي لجمال خاشقجي، صدمة للأوروبيين لم يكن من السهل على السياسيين والمشرعين تجاهلها، مع توارد التغطية الإعلامية المكثفة. وبعد نحو ثلاثة أسابيع من الجريمة، ذهبت أغلبية في البرلمان الأوروبي إلى موقف واضح يطالب دول الاتحاد بوقف بيع السلاح إلى الرياض. لم تكن مناقشات البرلمان الأوروبي بعيدة عن اغتيال خاشقجي، وما تضمّنته من تحميل مسؤولية ضمنية للسلطات السعودية، وتزايد ما أطلق عليها في نقاشات البرلمانيين "الأزمة الإنسانية في اليمن بفعل حرب المملكة (العربية السعودية) عليه"، وهو ما نُشر، من بين أشياء أخرى على موقع البرلمان الأوروبي في قراره المتخذ بالأغلبية، الذي تضمّن أيضاً دعوة لإطلاق الناشط رائف بدوي من سجون السعودية. وإلى جانب اعتبار قتل خاشقجي يتطلب رداً جماعياً، كما جاء على لسان البرلماني فيكتور بوستينارو، من مجموعة يسار الوسط في البرلمان الأوروبي، فإن الدعوة إلى منع تصدير السلاح إلى الرياض تجاوزت جدران البرلمان الأوروبي.
ولم تتأخر برلين وأوسلو وكوبنهاغن في اتباع سياسة "تعليق" و"وقف" بيع السلاح والمعدات العسكرية للسعودية، خلال الأسابيع الأولى التي تلت جريمة قتل خاشقجي. وعلى الرغم من أن برلين دعت إلى ما سمته "تنسيقاً سياسياً بين الدول الـ28 (الأعضاء في الاتحاد الأوروبي)"، بدا لافتاً كيف أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصف موقف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من تعليق توريد السلاح إلى الرياض بالديماغوجي، معتبراً ألا رابط بين قتل خاشقجي وقضية تصدير السلاح.
ومن المثير في المواقف الأوروبية، المتزايدة في جرأتها ضد تزويد الرياض بالسلاح، أن الموقف الإسباني، بزعامة رئيس الوزراء الاشتراكي بيدرو سانشيز، سبق المواقف الأوروبية وقضية اغتيال خاشقجي. فقد أعلنت الحكومة في مدريد في 4 سبتمبر/ أيلول 2018، أي قبل نحو شهر من الاغتيال، أنها ستعلّق تزويد الرياض بـ400 صاروخ موجّهه بالليزر بحسب صفقة موقّعة في 2015، وذلك على خلفية التقارير الدولية، ومن بينها تقرير "أمنستي" وغيرها من المنظمات الحقوقية، وجماعات الضغط المحلية، التي ناشدت العواصم الغربية، على وقع الكارثة اليمنية، وقف تزويد تحالف الرياض بالذخائر والأسلحة. وأهمية قرار مدريد أنها تحتل المرتبة الرابعة في قائمة مصدّري السلاح إلى الرياض.
وشكّلت تقارير المفوضية الأممية لحقوق الإنسان، التابعة للأمم المتحدة، ضغطاً وإحراجاً إضافياً لبعض الحكومات الأوروبية، حين أعلنت أن "قصف التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن يصل إلى مستوى جرائم حرب ترتكب في المدنيين". بل شبّهت الأمم المتحدة، في أغسطس/ آب 2018، الواقع اليمني تحت قصف تحالف الرياض - أبوظبي بـ"يوم القيامة"، بعد مقتل 40 طفلاً في حافلة مدرسية بقنابل شركة "لوكهيد مارتن" الأميركية.
شحنة العار
أما السلطات الفرنسية، فوجدت نفسها متهمة داخلياً وخارجياً بالانتهازية، وبأن "فرنسا تقتل في اليمن"، كما لوّح النائب الفرنسي سيباستيان نادو في لافتة في الجمعية الوطنية في 19 فبراير/شباط الماضي. لم يتوقف الأمر عند ذلك، ففي 9 يونيو/ حزيران الماضي، طالب نادو، وهو نائب عن "الجمهورية إلى الأمام"، حزب ماكرون بإلغاء تحميل شحنات سلاح فرنسي على متن السفينة "تبوك" من ميناء فوس جنوبي فرنسا، وتقدّم بقضية مستعجلة أمام محاكم الاستئناف يوم 11 يونيو، بالتوازي مع اتساع الدعوات لإجراء تحقيق في مبيعات فرنسا من السلاح إلى الرياض عبر لجنة تحقيق متخصصة. وكان 36 برلمانياً فرنسياً، أقروا في إبريل/ نيسان 2018، ضرورة إنشاء "لجنة تقصّي حقائق حول صادرات سلاح فرنسي للرياض"، كتعبير عن الامتعاض من السلطة التنفيذية، كما ذكرت صحيفة "لوموند". ولا يبدو أن سمعة الرياض وماكرون، لدى الصحافة وفي الشارع الحقوقي ومؤسسات المجتمع المدني، ماضية نحو التحسن، مع إبراز دقيق لمساهمات السلاح الفرنسي بجرائم القتل في اليمن. وعلى تلك الخلفية أيضاً لم تجد السفينة السعودية "بحري ينبع" أمامها في ميناء لوهافر الفرنسي، سوى مزيد الاحتجاجات والحملات الحقوقية الضاغطة على حكومة باريس لوقف بيع الأسلحة للرياض، بعد اتهامها من منظمات حقوقية فرنسية بارتكابها وأبوظبي "جرائم حرب في اليمن". ولم تختلف الصورة كثيراً مع شحنات أسلحة سعودية أخرى في موانئ إسبانية وإيطالية، كما حدث مع "بحري ينبع" في جنوى.
ومثلما تنتشر الخشية في لندن من أن يصبح القرار الأخير لمحكمة بريطانية، مقدّمة لملاحقة مسؤولين حكوميين بتهم المشاركة في "جرائم ضد الإنسانية"، يخشى بعض الساسة الفرنسيين، وغيرهم في أوروبا، أن تطاولهم تلك التهم مستقبلاً. كما أن حراكاً تشهده روما أخيراً يأتي ضمن المتغيرات الأوروبية حول التخوّف من نتائج استمرار تصدير السلاح إلى الرياض.
كل تلك التحركات تفتح الباب واسعاً لمزيد من الضغوط المؤسساتية والشعبية، مسنودة بتغطية إعلامية غير مسبوقة حول دور الرياض في الحرب في اليمن، والمغامرات الإقليمية مع حليفتها أبوظبي، واختلاقها نزاعات مع دول قريبة وبعيدة، وتعنّتها في سياسات تستند إلى ما تصفه الصحافة الغربية "دعم معسكر دونالد ترامب لتفلّت السعودية من الحساب، بما فيه قتل المعارضين"، بحسب تقرير لصحيفة "انفارماسيون" الدنماركية قبل أيام بعنوان "إذا كان لديك الأصدقاء الصحيحون فستفلت من العقاب".
الحماية الأميركية
في إبريل/ نيسان الماضي، ذهب الكونغرس الأميركي نحو إقرار مشروع قرار لإنهاء الدعم العسكري للتحالف السعودي-الإماراتي في اليمن. هذا التحرك ليس مجرد قرار رمزي بل يُقرأ على أنه ضربة قوية لترامب، على الرغم من استعماله حق النقض، وهو مؤشر على تراجع قوي لمكانة وهيبة الرياض في علاقتها بصنّاع القرار، ومؤسسات عملت وضخت أموالاً كثيرة للحفاظ على الروابط معها.
ويبدو السعوديون كمن يبتلع إهانات ترامب المتكررة عن الحماية، واتصالاته بالملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز لطلب المزيد من المال، مقابل أن يوقف ترامب قرارات الكونغرس، بما فيها الأخيرة في يونيو الماضي بمنع السلاح عن الرياض. ودائماً ما يكرر الرئيس الأميركي في وجه منتقديه، من مشرّعين وإعلام، منذ محاولته الأولى التغطية على جريمة اغتيال خاشقجي، وتحديه المشرعين المطالبين بوقف تسليح الرياض بالمعدات والقنابل، أن "الأمر يتعلق بصفقات بأكثر من 400 مليار دولار لتشغيل ملايين الأميركيين"، وهو يشير بذلك إلى زيارته الرياض في مايو/ أيار 2017، وما تلاها من استعراض أثناء زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للبيت الأبيض، عن قيمة المشتريات العسكرية السعودية وتوظيفها في ماكينة التصنيع العسكري الأميركي. وهو موقف كرره في 20 يونيو الماضي، على خلفية تصويت تشريعي في واشنطن بوقف تصدير سلاح إلى الرياض.
المفارقة التي تثير الانتباه، هي بين التوجّه الأوروبي المتصاعد لوقف أو تعليق مدّ السعودية بمعدات وذخائر، وبين التوجّه الأميركي الجديد، وبالأخص البيت الأبيض، في تسليح الرياض، مع دور غير خفي لتل أبيب في تمرير الصفقات والضغط لتليين الموقف من بن سلمان. المتغير الأميركي الواضح تجاه تسليح السعودية، مقارنة بثمانينيات القرن الماضي، أننا لم نعد أمام ما يسمى "الحفاظ على التفوّق الاستراتيجي الإسرائيلي"، لمنع وصول أسلحة حديثة للرياض وغيرها، باستثناء ما وجده البنتاغون والأجهزة الأمنية الأميركية ضرورات استراتيجية لمصالح واشنطن، كالتعاون ومساعدة الجيش المصري، كجزء من تحويل عقيدته القتالية بعد اتفاقية كامب دافيد. الآن يبدو واضحاً أن دولة الاحتلال ولوبيات واشنطن وجهود رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، يجهدون دفاعاً عن موقف الرياض، بل استمرار مدها بالسلاح والذخائر، وكأن حلفاً من نوع جديد يتشكل، بين الرياض وتل أبيب وأبوظبي، عدا عن علانية العلاقة "المتميزة" بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ونتنياهو.
ورطة الرياض المتصاعدة
يشبّه بعض المراقبين ما يجري مع السعودية، في ظل قيادة غارقة في حروب لا تعود سوى بفوائد تحققها أبوظبي، بورطة عصر جديد من العلاقات مع الغرب. ففي ظل قيادة بن سلمان، يبدو التوتر سيد الموقف في علاقاته بأكثر من دولة، وتكفي استعادة الأزمة المصطنعة مع استوكهولم بعد انتقاد وزيرة خارجيتها مارغوت فالستروم للسجل الحقوقي السعودي، وتوالي التوترات نحو ألمانيا وكندا، واختلاق مشاكل مع الجيران وانتهاج سياسة مزدوجة مع تركيا والمراهنة على سحب حلفاء طهران نحوها، وهو ما ثبت فشله.
وفي ظل تلك السياسات والتكتيكات، من غير المستبعد أن تصل الرياض إلى نقطة تجد نفسها مضطرة للبحث عن مصادر سلاح غير أوروبي، وقد يكون الأمر صعباً نتيجة أسباب متعلقة باعتماد الرياض على التسليح الغربي بأغلبه، وظروف العلاقات مع موسكو، حليفة طهران من جهة، التي يمكن أيضاً أن تتراجع أمام ضغوط غربية لمنع توريد السلاح للرياض.
ولا شيء يبدو متجهاً نحو تغيير إيجابي لصالح الرياض، وهو ما برز في قرار مجلس الدولة البلجيكي في منتصف الشهر الماضي إلغاء تراخيص تصدير الأسلحة إلى السعودية، ليلحق البلد ببقية الدول الاسكندنافية والأوروبية التي انتهجت السياسة نفسها أخيراً، وكأنها استجابة لقرار البرلمان الأوروبي في خريف العام الماضي، والتسارع في الردود الأوروبية على تعنّت الرياض ومعها ترامب في التصعيد العسكري في اليمن والخليج، وفقاً لما قرأه مراقبون أوروبيون خلال الأيام الماضية، مع توقعات بأن تتسع دائرة تجميد توريد القذائف والصواريخ والضغط على الحكومات للتخلي عن صفقات وقّعتها سابقاً.