12 نوفمبر 2024
تراجيديا الانتفاضة الفلسطينية المجهضة
طال انتظار الفلسطينيين والعرب طويلاً، وتقلّبوا على جمر الترقب والتوقعات زمناً مديداً، وهم يتطلعون بشغفٍ شديدٍ وحنينٍ جارف، إلى زمن المواجهة الشاملة مع الاحتلال، أي إلى استعادة الزمام، ويمنّون النفس بالرجاء والأمل، في رؤية انتفاضةٍ ثالثة، بتلك المشاهد الملحمية الباذخة، وقد عادت تملأ الشوارع وشاشات التلفزيون من جديد، باعتبار أن مثل هذا الفعل الكفاحي المجيد، المجهض غير مرة واحدة، بات استحقاقاً واجب الدفع من دون تأخير، تمليه ضروراتٌ موضوعيةٌ ملحة، وتفرضه تحولاتٌ سياسيةٌ تُعد ولا تُحصى.
إذ على خلفية كل مواجهةٍ ساخنةٍ جرت مع الاحتلال، وما أكثر مرّاتها، ومع كل احتشادٍ على بوابات القدس أو على حدود قطاع غزة، كانت الحناجر تصدح بأعلى صوت، والبشائر تُزفّ من كل حدب وصوب؛ ها إن الساعة قد أزفت، وها إن الانتفاضة المنتظرة على أحرّ من الجمر قد اندلعت، وإن ما كان حتى الأمس القريب محض أمنية بعيدة المنال قد صار واقعاً متجلياً على الأرض، على نحو ما كانت عليه انتفاضة الحجارة على أقل تقدير، وإن كان ذلك بصورة أخرى بطبيعة الحال.
ولعل العمليات العسكرية التي جرت أخيرا بوتيرة عالية، وبروح بطوليةٍ هائلة، لا سيما في محيط رام الله، وما أدت إليه هذه الأفعال الفدائية، حقاً، من ارتفاع شديد في المعنويات، واستعجالٍ تقليدي في الاستنتاجات، كانت آخر مناسبةٍ تجدّد فيها الحديث عن أهمية اندلاع الانتفاضة المباركة، وكثر في غضونها التنظير لضرورات إنهاء الانقسام اللعين، ومن ثمّة الإمساك بهذه اللحظة الوطنية المواتية، لرصّ الصفوف ضد الاحتلال، ورد كامل الاعتبار للعامل الذاتي، في صراعٍ لم يعد فيه للفلسطينيين غير أظفارهم يحكّون بها جلدهم.
لكن السؤال الذي لم يبرح عقل المرء وقلبه؛ منذ أن استعصى عليه فهم تراجيديا الانتفاضة المجهضة هذه؛ لماذا تخيب كل الرهانات بسرعةٍ قياسيةٍ مذهلة، وتتبدّد سائر الآمال هكذا بقدرة قادر، ويتم تقاذف كرة المسؤولية عن الإخفاق في إشعال الجمرة المتقدة بلا طائل، وتندلع، في نهاية مطافٍ قصير، الاتهامات السقيمة، عوضاً عن اندلاع الانتفاضة المجيدة، فيما يواصل واقع الانقسام القائم ملء عين الشمس الدفاع عن نفسه بكفاءةٍ، ويظل الاستعصاء المتفاقم أكثر فأكثر مع مرور الوقت، يسد الدروب الضيقة أصلاً؟
يمكن ببساطة إعادة السبب إلى غياب الوحدة الوطنية، وتحميل هذا العامل كامل نصاب المسؤولية، غير أنني أحسب أن الانقسام الضارب عميقاً في الصدور وعلى الأرض، ليس إلا عرضاً لمرض أشد، أمسك بتلابيب الحياة السياسية الفلسطينية، ونعني به الصراع على السلطة، وهي، في واقع الأمر، سلطة وهمية، حيث بات هذا الصراع المرير، ولا نقول التنافس المشروع على كسب الرأي العام، القانون الأساس، إن لم يكن الناظم الرئيس، المتحكم بكل شأنٍ من شؤون الصراع الأكبر مع الاحتلال الذي يتمنى النجاح لكلا الطرفين معاً.
وعليه، فشلت كل محاولةٍ جرت لإدارة الانقسام وتهذيب مظاهره المقلقة، وأخفقت كل الوساطات والضغوط في إنهاء المناكفات السياسية المؤذية، طالما أن الصراع المحموم على الحصص والأوزان والعوائد من كعكة السلطة، وهي كعكة غير دسمة، بقي بمثابة البوصلة الموجهة للتكتيكات والمراوغات والخطابات المتبادلة، وظلت له الأولوية الأولى لدى الطرفين القابضين على شقي المعادلة، الأمر الذي أفرز خطباً أشد هولاً من خطب إجهاض الانتفاضة مرة إثر مرة، ألا وهو خلق نكبة جديدة في قلب النكبة القديمة.
لهذا كله، ليس مقدّراً لأي هبةٍ شعبية، أو موجة عارمة من العمليات الفدائية، مهما كانت قوية، أن تتحول إلى انتفاضة، تماماً على نحو ما تنطق به التجربة المُرّة، طالما أن الصراع على الأحقية والشرعية والصواب، وبالتالي على السلطة، هو المهيمن على الإرادات المتصادمة صداماً داخلياً، أكثر حدّة وأشد هولاً من الصراع، حتى مع الاحتلال نفسه، لا سيما أن الطرف المحاصر في قطاع غزة يعي أن لا مستقبل لمشروعه، ولا يستطيع الاستمرار إلى ما يشاء الله، إن لم يتمكن من الوصول إلى الضفة الغربية.
إذ على خلفية كل مواجهةٍ ساخنةٍ جرت مع الاحتلال، وما أكثر مرّاتها، ومع كل احتشادٍ على بوابات القدس أو على حدود قطاع غزة، كانت الحناجر تصدح بأعلى صوت، والبشائر تُزفّ من كل حدب وصوب؛ ها إن الساعة قد أزفت، وها إن الانتفاضة المنتظرة على أحرّ من الجمر قد اندلعت، وإن ما كان حتى الأمس القريب محض أمنية بعيدة المنال قد صار واقعاً متجلياً على الأرض، على نحو ما كانت عليه انتفاضة الحجارة على أقل تقدير، وإن كان ذلك بصورة أخرى بطبيعة الحال.
ولعل العمليات العسكرية التي جرت أخيرا بوتيرة عالية، وبروح بطوليةٍ هائلة، لا سيما في محيط رام الله، وما أدت إليه هذه الأفعال الفدائية، حقاً، من ارتفاع شديد في المعنويات، واستعجالٍ تقليدي في الاستنتاجات، كانت آخر مناسبةٍ تجدّد فيها الحديث عن أهمية اندلاع الانتفاضة المباركة، وكثر في غضونها التنظير لضرورات إنهاء الانقسام اللعين، ومن ثمّة الإمساك بهذه اللحظة الوطنية المواتية، لرصّ الصفوف ضد الاحتلال، ورد كامل الاعتبار للعامل الذاتي، في صراعٍ لم يعد فيه للفلسطينيين غير أظفارهم يحكّون بها جلدهم.
لكن السؤال الذي لم يبرح عقل المرء وقلبه؛ منذ أن استعصى عليه فهم تراجيديا الانتفاضة المجهضة هذه؛ لماذا تخيب كل الرهانات بسرعةٍ قياسيةٍ مذهلة، وتتبدّد سائر الآمال هكذا بقدرة قادر، ويتم تقاذف كرة المسؤولية عن الإخفاق في إشعال الجمرة المتقدة بلا طائل، وتندلع، في نهاية مطافٍ قصير، الاتهامات السقيمة، عوضاً عن اندلاع الانتفاضة المجيدة، فيما يواصل واقع الانقسام القائم ملء عين الشمس الدفاع عن نفسه بكفاءةٍ، ويظل الاستعصاء المتفاقم أكثر فأكثر مع مرور الوقت، يسد الدروب الضيقة أصلاً؟
يمكن ببساطة إعادة السبب إلى غياب الوحدة الوطنية، وتحميل هذا العامل كامل نصاب المسؤولية، غير أنني أحسب أن الانقسام الضارب عميقاً في الصدور وعلى الأرض، ليس إلا عرضاً لمرض أشد، أمسك بتلابيب الحياة السياسية الفلسطينية، ونعني به الصراع على السلطة، وهي، في واقع الأمر، سلطة وهمية، حيث بات هذا الصراع المرير، ولا نقول التنافس المشروع على كسب الرأي العام، القانون الأساس، إن لم يكن الناظم الرئيس، المتحكم بكل شأنٍ من شؤون الصراع الأكبر مع الاحتلال الذي يتمنى النجاح لكلا الطرفين معاً.
وعليه، فشلت كل محاولةٍ جرت لإدارة الانقسام وتهذيب مظاهره المقلقة، وأخفقت كل الوساطات والضغوط في إنهاء المناكفات السياسية المؤذية، طالما أن الصراع المحموم على الحصص والأوزان والعوائد من كعكة السلطة، وهي كعكة غير دسمة، بقي بمثابة البوصلة الموجهة للتكتيكات والمراوغات والخطابات المتبادلة، وظلت له الأولوية الأولى لدى الطرفين القابضين على شقي المعادلة، الأمر الذي أفرز خطباً أشد هولاً من خطب إجهاض الانتفاضة مرة إثر مرة، ألا وهو خلق نكبة جديدة في قلب النكبة القديمة.
لهذا كله، ليس مقدّراً لأي هبةٍ شعبية، أو موجة عارمة من العمليات الفدائية، مهما كانت قوية، أن تتحول إلى انتفاضة، تماماً على نحو ما تنطق به التجربة المُرّة، طالما أن الصراع على الأحقية والشرعية والصواب، وبالتالي على السلطة، هو المهيمن على الإرادات المتصادمة صداماً داخلياً، أكثر حدّة وأشد هولاً من الصراع، حتى مع الاحتلال نفسه، لا سيما أن الطرف المحاصر في قطاع غزة يعي أن لا مستقبل لمشروعه، ولا يستطيع الاستمرار إلى ما يشاء الله، إن لم يتمكن من الوصول إلى الضفة الغربية.
دلالات
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024