19 أكتوبر 2019
ترامب بين المزاجية وإكراهات الواقع السياسي
من الأوهام، وربما المعتقدات، السائدة عند شرائح واسعة من الجمهور وحتى النخبة، أن الشعبويين سيفعلون ما يقولون، وأنهم سيفون بوعودهم الانتخابية، عكس ممثلي الأحزاب التقليدية الحاكمة أو التيارات المعتدلة. وفي هذا الإطار، يمكن القول بوجود أوجه شبه بين التيارات الشعبوية والتيارات الدينية السياسية، فكلاهما، نظراً لافتقاره أدنى شروط الوسطية، يؤمن ويقول إن الأمور سوداء أو بيضاء. ويتقاسم الشعبويون والدينيون السياسيون منطق المانوية. وليست هذه المعتقدات من السياسة في شيء، لأن عالم السياسة منطقة رمادية، لا هي بيضاء ولا هي سوداء، وهي شديدة التفاعل والتداخل، بسبب الدينامية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتشابك المصالح وتضاربها وصراع النفوذ، فضلاً عن العلاقة المعقدة بين ما يسمى في علم السياسة والعلاقات الدولية بالبنية والوكيل، فالأولى تؤثر بشكل واضح على الثاني وعلى سلوكه.
ينطبق هذا التحليل على الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب الذي انتخب، فيما انتخب، على أساس عدم التدخل في شؤون العالم وأزماته (مثل الأزمة السورية)، وعلى التقليل من شأن الحلف الأطلسي، بل وجدواه. لكن، بعد أسابيع فقط من توليه الحكم، بدأت وعوده ومواقفه السياسية تتغير، الواحدة تلو الأخرى. بالطبع، لا تلزم الوعود إلا من يتلقاها، فترامب الذي شكك في جدوى الحلف الأطلسي يقر اليوم بأهميته، ويدعو، كما دعا باراك أوباما وغيره، الدول الأوروبية إلى رفع ميزانياتها العسكرية للمساهمة أكثر في الأمن الجماعي الأطلسي، وتطبيقاً لقرارات قمم الناتو الأخيرة.
لكن المنعرج الأهم يخص الأزمة السورية، فترامب أكد مراراً على عدم نيته التدخل في هذه الأزمة وعدم المطالبة برحيل الأسد. وحتى آخر لحظة، قبل حادثة استخدام الأسلحة الكيميائية، بقي مصراً على موقفه. وهو موقفٌ يتناغم وسياسته إزاء روسيا، صاحبة الكلمة الفصل في
الأزمة السورية. لكن، بمجرد استخدام هذه الأسلحة ضرب، وبسرعة، مواقع وبنى تحتية تابعة للجيش السوري. إنه تحوّل جذري في موقفه. ويمكن تفسير هذا التحول بالمزاجية، كما يمكن تفسيره بإكراهات الواقع السياسية. وإذا كانت هذه الإكراهات تقود عموماً إلى تحمل المسؤولية، وإلى تعاملٍ متزن مع الأحداث، فإن المزاجية خطر على الأداء السياسي، لأنها قد تورّط البلد وحتى العالم، بالنظر إلى ثقل الولايات المتحدة، في دوامةٍ هما في غنى عنها، لاسيما إذا تعلق الأمر ببعض بؤر التوتر المرتفعة الحدّة. بتغير موقفه من الأزمة السورية، غيّر ترامب، ولو إلى حين، موقفه من روسيا، ما جعل العلاقة بين الطرفين تشهد برودة وتوتراً يشيران إلى نهاية "الود" الذي طبع الحملة الانتخابية والأسابيع الأولى من رئاسة ترامب. ومن غير المستبعد أن "تعاقب" روسيا بوتين أميركا ترامب على سلوكها هذا، بالوقوف إلى جانب كوريا الشمالية، بدعوى الأمن الإقليمي.
يدل ضرب مواقع الجيش السوري بعد حادثة الأسلحة الكيميائية، وفي عجالة، على مدى مزاجية ترامب المتقلبة، وعلى تطبيع سلوكه السياسي في ظرف زمني قياسي، فهو بموقفه هذا يسير على خطى غيره من الزعماء الغربيين الذين يعتبرون استخدام الأسلحة الكيميائية خطاً أحمر. ومن ثم هو لا يختلف عن موقف المؤسسة السياسية التي يقول إنه انتخب ضدها ولتغييرها. تتداخل هنا أيضاً المزاجية بالعلاقة التأثيرية للبنية على الوكيل. وإن كان هذا الخط الأحمر أقرب إلى النفاق السياسي. لأن التحرّك، بعد استخدام مثل هذه الأسلحة، يعني أنه يمكن ويحق لأي نظام أن يقمع مواطنيه ويضطهدهم، ما دام يستخدم أسلحة تقليدية، لا تثير إدانة وسخطاً سياسيين باسم الإنسانية، فالأخيرة ليست معياراً، وإنما تتم مقاربتها وفق نوعية السلاح الفتاك المستخدم!
لكن، كما قلنا قد تصبح المزاجية خطراً، إن عجزت إكراهات الواقع السياسي، بل الواقعية
السياسية والوسطية، في كبح جماحها، كما يتضح ذلك من تعامل مزاجية ترامب مع مزاجية كيم جون أون الكوري الشمالي. فبقراره إرسال حاملة طائراتٍ وقطعاً بحرية حربية أخرى، ليس بعيداً عن السواحل الكورية الشمالية، يقابل ترامب تهور أون بتهورٍ آخر. صحيح أنه يريد، في قراره هذا، التأكيد على حزمه وعزمه التعامل بشدة مع كوريا الشمالية، رداً على سياستها (مواصلتها إجراء تجارب نووية). وتؤكد إدارته أن كل البدائل مطروحة، ما يعني عدم استبعاد الضربة العسكرية. المشكلة هنا أن العامل النووي (امتلاك كوريا الشمالية السلاح النووي) يفسد لعبة التكشير عن الأنياب السياسية، لأن الصراع قد يتحول إلى مواجهة نووية.
توجد كوريا الجنوبية واليابان وبلدان المنطقة في وضعٍ لا تحسد عليه، فهي تحت رحمة تهور أون من جهة، وتهور ترامب من جهة ثانية؛ فالأول عدو غير عاقل، والثاني صديق غير عاقل، وإن كان ليس من الفئة نفسها. ولذا تراها راغبةً وممانعة، في الوقت نفسه؛ راغبة في موقف حازم من الولايات المتحدة الأميركية حيال كوريا الشمالية لردعها، حتى يبقى التوتر في شبه الجزيرة الكورية في حدود المعقول، من منظور الفواعل الإقليمية المعنية، وممانعة تخوفاً من انزلاق أمني، بل وعسكري، بسبب مقابلة تهور أون بتهور آخر.
وعليه، من المرجح أن تراهن دول المنطقة، وفي مقدمتها كوريا الشمالية واليابان، على وسطية الصين، لكبح جماح تطرّفي أون وترامب، لتجنيب المنطقة الخراب والدمار، خصوصاً أن هناك التقاء لمصالح هذه الدول الثلاث، فالصين قلقة من السلوك الأميركي حيال كوريا الشمالية، لتخوفها من توريطه المنطقة في مواجهةٍ عسكريةٍ تضر بالمصالح الصينية وبأمنها (تتخوف الصين مثلاً من وصول جحافل كبيرة من اللاجئين من كوريا الشمالية في حال مواجهة عسكرية). لكن، قبل هذا المشهد، ما يقلق الصين (وروسيا أيضاً) هو تعزيز الولايات المتحدة قواتها العسكرية المرابطة في المنقطة، بدعوى ردع نظام كوريا الشمالية.. لعبة الشطرنج في أقصى الشرق في غاية من التعقيد وأي تهور، مهما كانت درجته، قد يدّمر منطقة هي اليوم القلب النابض للاقتصاد العالمي.
ينطبق هذا التحليل على الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب الذي انتخب، فيما انتخب، على أساس عدم التدخل في شؤون العالم وأزماته (مثل الأزمة السورية)، وعلى التقليل من شأن الحلف الأطلسي، بل وجدواه. لكن، بعد أسابيع فقط من توليه الحكم، بدأت وعوده ومواقفه السياسية تتغير، الواحدة تلو الأخرى. بالطبع، لا تلزم الوعود إلا من يتلقاها، فترامب الذي شكك في جدوى الحلف الأطلسي يقر اليوم بأهميته، ويدعو، كما دعا باراك أوباما وغيره، الدول الأوروبية إلى رفع ميزانياتها العسكرية للمساهمة أكثر في الأمن الجماعي الأطلسي، وتطبيقاً لقرارات قمم الناتو الأخيرة.
لكن المنعرج الأهم يخص الأزمة السورية، فترامب أكد مراراً على عدم نيته التدخل في هذه الأزمة وعدم المطالبة برحيل الأسد. وحتى آخر لحظة، قبل حادثة استخدام الأسلحة الكيميائية، بقي مصراً على موقفه. وهو موقفٌ يتناغم وسياسته إزاء روسيا، صاحبة الكلمة الفصل في
يدل ضرب مواقع الجيش السوري بعد حادثة الأسلحة الكيميائية، وفي عجالة، على مدى مزاجية ترامب المتقلبة، وعلى تطبيع سلوكه السياسي في ظرف زمني قياسي، فهو بموقفه هذا يسير على خطى غيره من الزعماء الغربيين الذين يعتبرون استخدام الأسلحة الكيميائية خطاً أحمر. ومن ثم هو لا يختلف عن موقف المؤسسة السياسية التي يقول إنه انتخب ضدها ولتغييرها. تتداخل هنا أيضاً المزاجية بالعلاقة التأثيرية للبنية على الوكيل. وإن كان هذا الخط الأحمر أقرب إلى النفاق السياسي. لأن التحرّك، بعد استخدام مثل هذه الأسلحة، يعني أنه يمكن ويحق لأي نظام أن يقمع مواطنيه ويضطهدهم، ما دام يستخدم أسلحة تقليدية، لا تثير إدانة وسخطاً سياسيين باسم الإنسانية، فالأخيرة ليست معياراً، وإنما تتم مقاربتها وفق نوعية السلاح الفتاك المستخدم!
لكن، كما قلنا قد تصبح المزاجية خطراً، إن عجزت إكراهات الواقع السياسي، بل الواقعية
توجد كوريا الجنوبية واليابان وبلدان المنطقة في وضعٍ لا تحسد عليه، فهي تحت رحمة تهور أون من جهة، وتهور ترامب من جهة ثانية؛ فالأول عدو غير عاقل، والثاني صديق غير عاقل، وإن كان ليس من الفئة نفسها. ولذا تراها راغبةً وممانعة، في الوقت نفسه؛ راغبة في موقف حازم من الولايات المتحدة الأميركية حيال كوريا الشمالية لردعها، حتى يبقى التوتر في شبه الجزيرة الكورية في حدود المعقول، من منظور الفواعل الإقليمية المعنية، وممانعة تخوفاً من انزلاق أمني، بل وعسكري، بسبب مقابلة تهور أون بتهور آخر.
وعليه، من المرجح أن تراهن دول المنطقة، وفي مقدمتها كوريا الشمالية واليابان، على وسطية الصين، لكبح جماح تطرّفي أون وترامب، لتجنيب المنطقة الخراب والدمار، خصوصاً أن هناك التقاء لمصالح هذه الدول الثلاث، فالصين قلقة من السلوك الأميركي حيال كوريا الشمالية، لتخوفها من توريطه المنطقة في مواجهةٍ عسكريةٍ تضر بالمصالح الصينية وبأمنها (تتخوف الصين مثلاً من وصول جحافل كبيرة من اللاجئين من كوريا الشمالية في حال مواجهة عسكرية). لكن، قبل هذا المشهد، ما يقلق الصين (وروسيا أيضاً) هو تعزيز الولايات المتحدة قواتها العسكرية المرابطة في المنقطة، بدعوى ردع نظام كوريا الشمالية.. لعبة الشطرنج في أقصى الشرق في غاية من التعقيد وأي تهور، مهما كانت درجته، قد يدّمر منطقة هي اليوم القلب النابض للاقتصاد العالمي.