وتخصيص 200 مليون دولار لإعادة إعمار مناطق سيطرت عليها قوات "سورية الديمقراطية" في دير الزور خصوصاً، هو قرار أعلنه وزير الخارجية المقال ريكس تيلرسون خلال اجتماع "التحالف الدولي لمكافحة داعش" في الكويت فبراير/ شباط الماضي، ونُظر إليه في حينها كتتمة طبيعية لاستراتيجية وزارتي الدفاع والخارجية تجاه سورية، لناحية تثبيت منطقة شرق الفرات والبادية السورية لجهة الجنوب، كمناطق نفوذ أميركية يمنع على حلفاء إيران الاقتراب منها.
وهيمن الصمت الكامل في عواصم الدول المعنية في الملف السوري، تحديداً إيران وتركيا وروسيا، حيال مفاجآت الانسحاب الأميركي من سورية، عسكرياً وسياسياً. صمت يمكن تفسيره برغبة هذه الدول بمعرفة ما إذا كان كلام ترامب وما تلاه من تسريبات صحافية يندرج في خانة المناورة، أو أنه فعلاً استراتيجية جدية. لكن في جميع الأحوال، إن كان الانسحاب الأميركي من الملف السوري و"ترك الأطراف الأخرى تهتم بالأمر"، على حدّ تعبير ترامب نفسه، قراراً جدياً، فإنّه يمكن أن يثير المخاوف الروسية التركية الإيرانية أكثر من الارتياح، مع أن قراراً مماثلاً يفترض أن يترك منطقياً، سعادة عند هذا المحور، لكونه يترك، نظرياً، ساحة شرقي الفرات مفتوحة أمام إحدى هذه الدول لملء الفراغ الأميركي المتوقع. لكن الأمور قد لا تكون بهذه البساطة؛ أولاً أن الانسحاب الأميركي، إن تم، قد يثير خلافات كبيرة بين الثلاثي الروسي الإيراني التركي حول من هو الأحق باحتلال تلك البقعة الجغرافية. وكل من روسيا وتركيا وإيران تعتبر تلك المنطقة شديدة الأهمية، لكونها منطقة حدودية، ونفطية تحوي أكبر حقلين للغاز وللنفط في سورية (حقلا العمر وكونيكو)، وقريبة من العراق ومن تركيا.
فمن جهة، تركيا قد تعتبر أن من حقها مدّ حربها السورية ضد المسلحين الأكراد إلى شرقي الفرات لناحية دير الزور، لأن تلك المنطقة ممسوكة من عدوها الأول، أي "قوات سورية الديمقراطية"، التي حاربتها ولا تزال في منطقة ريف حلب وتهدد بمواصلة القضاء عليها حتى في مناطق الحسكة مثلاً. كما أن إيران تعتبر تلك المنطقة الأهم بالنسبة إليها على الإطلاق، من بعد دمشق والحدود اللبنانية ربما، لكونها تعتبر امتداداً رئيسياً لما يعرف بـ"طريق طهران ــ بغداد ــ دمشق ــ بيروت"، والتي تختصر حلم إيران التوسعي بربط مناطق سيطرتها في الشرق الأوسط وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط، ليصبح كل من العراق وسورية ولبنان أرضاً ممسوكة من إيران، لا سياسياً فحسب، بل عسكرياً أيضاً، وككتلة جغرافية واحدة مرتبطة ميدانياً بطريق بري يسهّل نقل الأسلحة والمقاتلين. أما روسيا، فهي بدورها، تودّ أن تكون منطقة البادية والصحراء السوريتين من حصتها، لتوسيع رقعة نفوذها في سورية، لكن ذلك يعرضها للاشتباك شبه الحتمي مع تركيا وإيران، شريكيها في مسار أستانة، الذي يمكن تسميته مجازاً بمسار إنهاء الثورة السورية وإبقاء نظام بشار الأسد صورياً، في مقابل تقاسم الدول الثلاث هذه مناطق النفوذ السورية في ما بينها.
لكن الغموض الذي رافق وتلى قرار ترامب الانسحاب من سورية "وترك الأطراف الأخرى تهتم بالأمر"، ولّد أسئلة أكثر مما قدّم أجوبة. فكيف تنوي أميركا محاربة النفوذ الإيراني في المنطقة وهي تخليها لإيران، في حال حصل الانسحاب من منطقة حدودية مع العراق، تمسك مليشيات إيران بزمامها من الجهة العراقية؟ أم تصحّ فرضية بعض وسائل الإعلام الأميركية حول أن قرار الانسحاب يوحي برغبة أميركية بضرب إيران فعلاً، بالتالي يجب استباق القصف بانسحاب من سورية لتفادي ردّ يستهدف الأميركيين هناك؟ ثمّ هل وافق مستشار الأمن القومي الجديد، جون بولتون، الذي يتسلّم منصبه رسمياً في التاسع من إبريل/نيسان المقبل، على قرار ترامب؟ فبولتون، رجل الحرب ضد إيران، وصقر حقيقي في هذا المجال، هل يكون تمّ التنسيق معه حول الخطوة التي ربما تفتح المجال لإيران من أجل توسيع منطقة نفوذها؟ أم يكون قرار ترامب مادة خلاف مبكرة مع بولتون، العقائدي الإيديولوجي في كل ما يتعلّق بالسياسة الخارجية الأميركية الحربية، تحديداً في ملفات من نوع إيران؟ ثم، ألم يبنِ ترامب خطابه المعادي لسلفه باراك أوباما على مهاجمة قرار الأخير الانسحاب من العراق عام 2011؟ فكيف يقرّر مغادرة سورية في عزّ تقاسم الدول المعنية للنفوذ هناك، وفي وقت لا يستبعد كثيرون أن يعود تنظيم "داعش"، باسمه الصريح أو باسم جديد؟
من الجهة الأخرى، لا يُستبعد أن تخرج استعراضات إعلامية وسياسية تركية تعتبر أن قرار الانسحاب الأميركي هو استجابة للتهديدات التركية بمواجهة أي طرف يدعم قوات "سورية الديمقراطية"، من عفرين إلى منبج وعين العرب وصولاً إلى أي مكان آخر. كذلك إيران، من المنطقي، بعدما تتأكد من جدية قرار ترامب، أن تعتبر الانسحاب الأميركي بمثابة إعلان خسارة رسمية لواشنطن في سورية، بما أن "داعش ــ المدعوم أميركياً" بحسب الدعاية الإيرانية، سقط على يد إيران وحلفائها. أمّا الصداع الأكبر، فربما يضرب رؤوس حكام الكرملين، فلا موسكو ستتمكّن ربما من تأدية دور الحكم بين طموحات تركيا وإيران بمنطقة شرق الفرات، ولا هي، أي روسيا، قد تكون بمنأى عن الرغبة الكبيرة في أن تكون هذه المنطقة، الأميركية حالياً، من حصتها مستقبلاً، وهو ما يعني، أيضاً، وربما، أن التحالف الثلاثي الإيراني ــ الروسي ــ التركي الهش حول سورية، قد ينقلب عداءً حقيقياً بين هذا الثلاثي، بسبب قرار أميركي صدر من حيث لم يتوقعه أحد.