02 نوفمبر 2024
تركيا... إرادة الشعب الحاسمة
كثيرة الدروس التي تغتنمها الشعوب من تجارب الأمم الناجحة في مجالات الإبداع البشري المتعدّدة. لكن الفشل، في حدّ ذاته، يمكن أن يكون أيضاً من أسباب مراكمة الخبرة وتعليم النّاس ما لم يعلموا. والواقع أنّ الانقلاب التركي الفاشل يحمل عدّة دروس ودلالاتٍ، يمكن أن تكون مدار تدبّر في أعتى المؤسّسات الجامعية والمراكز البحثية، فالظاهر أنّ الصراع المشهود بين سلطتي الجيش المجتمع المدني، عقوداً من تاريخ تركيا المعاصرة، قد آل بعد المحاولة الانقلابية لصالح سلطة الإرادة الشعبيّة التي قلبت موازين القوى في وقتٍ قياسي، ورفضت تسليم مقاليد الحكم إلى المؤسسة العسكرية. والملاحظ أنّ شعب المواطنين الأعزل الذي خرج يواجه الدبابات، واخترق حظر التجوّل، وجازف بحياته، كان يريد منع العسكر من التدخّل في السياسة، ومنع الجيش من أن يكون وصيّاً على الشأن العامّ، وقيّماً على الدولة، فخروج الناس بكثافةٍ إلى شوارع إسطنبول وأنقرة وإزمير وغيره كان تعبيراً منهم عن أنّ حماية النظام الجمهوري/ العلماني، والمحافظة على الديمقراطية والتعدّدية، أمر يندرج ضمن مشمولات عموم المواطنين، وليس من اختصاص الجيش الذي يُفترض أن يلتزم بحماية المؤسسات السيادية وحراسة الحدود، والقيام بأعمالٍ إغاثية وإنمائية، وضمان السلم الاجتماعي بدل تجاوز صلاحياته والانقضاض على الحكم. وبدا واضحاً أنّ أغلب المحتجّين كانوا يرفعون أعلام الدولة التركية، في غير انتصارٍ لزعيم بعينه أو حزبٍ بعينه، ما يشير إلى التفافٍ جماعيٍّ حول مبدأ الوحدة الوطنية ومشروع الدولة المدنية، لما حقّقه من مكتسباتٍ في مجالات التنمية، والعدالة الاجتماعية والحريات العامّة، والتنافس السلمي على السلطة، فمنجزات الحكم المدني كانت حصانةً له، وضمانة لاستمراره، ودفعت الناس إلى التشبّث به، والنفور من الحكم العسكري الذي يعرفون سلفاً سطوته ومخاطره على الفرد والمجموعة، لما يؤدّي إليه من قمع، ومصادرةٍ للاختلاف، وتضييقٍ على الحرّيات وتكريس للاستبداد بالسلطة. وقد تجسّد درس الحرص على الوحدة الوطنية، ودرس التمسّك بمدنية الدولة، بامتياز في إدانة النواب، على اختلاف مشاربهم السياسية، الانقلاب، واعتصامهم، بقيادة رئيسهم، إسماعيل كهرمان، في البرلمان، احتجاجا على محاولة العسكر الإمساك بزمام السلطة. وعلى الرغم مما واجهه ممثّلو الشعب من حصار وتهديد وقصف، ظلّوا على موقفهم الثابت في التمسك الدستور، ورفض التغيير بقوّة السلاح، والتسليم بضرورة الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، في الوصول إلى دفّة الحكم. ومعلوم أنّ هذا الخيار دالّ على أنّنا إزاء نخبٍ سياسيةٍ مسؤولة، تعي حتميّة التكاتف عند الضرورة، وتتجاوز نزاعاتها الأيديولوجية ومصالحها الحزبية الضيّقة، لأجل تحقيق الصالح العام.
كما جسّد المشهد الإعلامي التركي مظهراً آخر من مظاهر التضامن مع الإرادة الشعبية، فبعض وسائل الإعلام التركية التي دأبت على نقد النظام الحاكم، وكانت علاقتها متوترة برجب طيّب أردوغان، لم تر حرجاً في فتح المجال له، ليتواصل مع الشعب، مادام ذلك يصب في صالح المحافظة على الدولة المدنية، ودرء الخطر العسكري الداهم. وفي السياق نفسه، تحرّك نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي، بشكلٍ مكثّف، عبر النت داخل تركيا وخارجها، فنقلوا مشاهد الصدام بين الجيش والشعب إلى العالم، ما زاد في تعاطف المجتمع الدولي مع المواطنين، وأجهض جهود الانقلابيين الرامية إلى مصادرة الكاميرا، والساعية إلى كتم أصوات الإعلاميين، وعزل البلاد عن العالم.
ومن ثمّة، فإنّ رسوخ الثقافة الديمقراطية في الوعي الجمعي التركي والموقف المسؤول للنخب
المثقفة والأحزاب السياسية، وازدهار وسائل التواصل الرقمي وثقافة التضامن الحقوقي داخل المجتمع الشبكي /الإلكتروني، أربك ذلك كله زعماء الانقلاب، وجعلهم في حيرةٍ من أمرهم، وفي عزلةٍ من قومهم وفي حرجٍ أمام العالم. وبدا أنّ المُنقلِب، إذ ينقلب على مَن ينقلب، لا يدري أيّ مُنقَلب سينقلب! فقد دارت الدوائر على قادة التمرّد، ووجدوا أنفسهم أمام حراكٍ شعبي احتجاجي هادر، فتبدّدت أحلامهم، وتبعثرت مخطّطاتهم، وذهب سعيهم سُدًى. وظهر للعيان أن الانقلابات العسكرية موضة قديمة، لا تقبل بها الشعوب الديمقراطية المستنيرة في الدول الصاعدة، ولا ترضى بها سوى الشعوب المغلولة إرادتها، والمشدودة إلى إسار التخلّف، بسبب حاكم مستبدّ، وبسبب نُخبٍ تراوح بين الاستقالة والتشريع للدولة القامعة، تحقيقاً لمصالح فئوية أو طائفية أو حزبيّة أو شخصيّة ضيّقة، أبعد ما تكون عن مصالح الشعوب المقهورة.
ومع أنّ الرئيس التركي، والحاكمين معه، كانوا ضحيّة عمل انقلابي فاشل، أجمعت كلّ القوى التقدّمية الحيّة في الداخل والخارج على إدانته، فإنّ تمسّك الشعب التركي بمكاسب الدولة المدنية، وبمحامل الدستور، سيُمثّل قوّة ضاغطة، تُلزم الفريق الحاكم باحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، في غمرة السعي إلى محاسبة من تعلّقت بهم شبهة الانقلاب، ذلك أنّ توفير المحاكمة العادلة ضروري، وطلب كشف الحقيقة وتحديد المسؤوليات بدل التشفّي والانتقام من أسباب حماية الديمقراطية، وتأمين استمرار ثقة المواطن في مؤسّسات الدولة، لا محالة.
كما جسّد المشهد الإعلامي التركي مظهراً آخر من مظاهر التضامن مع الإرادة الشعبية، فبعض وسائل الإعلام التركية التي دأبت على نقد النظام الحاكم، وكانت علاقتها متوترة برجب طيّب أردوغان، لم تر حرجاً في فتح المجال له، ليتواصل مع الشعب، مادام ذلك يصب في صالح المحافظة على الدولة المدنية، ودرء الخطر العسكري الداهم. وفي السياق نفسه، تحرّك نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي، بشكلٍ مكثّف، عبر النت داخل تركيا وخارجها، فنقلوا مشاهد الصدام بين الجيش والشعب إلى العالم، ما زاد في تعاطف المجتمع الدولي مع المواطنين، وأجهض جهود الانقلابيين الرامية إلى مصادرة الكاميرا، والساعية إلى كتم أصوات الإعلاميين، وعزل البلاد عن العالم.
ومن ثمّة، فإنّ رسوخ الثقافة الديمقراطية في الوعي الجمعي التركي والموقف المسؤول للنخب
ومع أنّ الرئيس التركي، والحاكمين معه، كانوا ضحيّة عمل انقلابي فاشل، أجمعت كلّ القوى التقدّمية الحيّة في الداخل والخارج على إدانته، فإنّ تمسّك الشعب التركي بمكاسب الدولة المدنية، وبمحامل الدستور، سيُمثّل قوّة ضاغطة، تُلزم الفريق الحاكم باحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، في غمرة السعي إلى محاسبة من تعلّقت بهم شبهة الانقلاب، ذلك أنّ توفير المحاكمة العادلة ضروري، وطلب كشف الحقيقة وتحديد المسؤوليات بدل التشفّي والانتقام من أسباب حماية الديمقراطية، وتأمين استمرار ثقة المواطن في مؤسّسات الدولة، لا محالة.