01 يناير 2024
تركيا.. التصعيد العسكري والمشهد السياسي
تخوض تركيا، منذ يوليو/ الماضي، ثلاث حروب، أو بالأحرى حربين ونصف، واحدة ضد تنظيم داعش الذي تجرأ على انتهاك حرمة الأراضي التركية وسيادتها، والأخرى ضد حزب العمّال الكردستاني الذي تصور قادته أن اعتبارهم الذراع البرية للغرب في حربه ضد داعش يتيح لهم ابتزاز الدولة التركية، أو نسف عملية التسوية، والمضي في مشروعهم الانفصالي المتغطرس. أما الحرب الثالثة، أو نصف الحرب، بالأحرى، فتخوضها تركيا ضد حزب جبهة التحرير الشعبي الثوري، وهو تنظيم ماركسي صغير فقد صفته الفكرية، وبات أقرب إلى المجموعة الطائفية المرتبطة مباشرةً بنظام بشار الأسد في سورية أو بقاياه.
تركت هذه الحروب، وستترك، في المستقبل القريب، أيضاً، تداعيات واضحة على المشهد السياسي والحزبي في البلد، مع تصاعد المدّ القومي التركي، وبدرجة أقل، الكردي أيضاً. وسعت الأحزاب كافة إلى تقديم روايتها، أو توصيفها تلك الحروب، لاستثمارها، والاستفادة منها في الامتحان الانتخابي الكبير في الأول من نوفمبر/تشرين ثاني المقبل.
بدايةً، لا بد من الإشارة إلى أن حزب الشعب الجمهوري اليساري العلماني الأتاتوركي يبدو وكأنه خارج، أو على الأقل، غير متأثر بالمستجدات، لا سلباً ولا إيجاباً. فالحزب الذي لم يكن له موقف واضح من عملية التسوية والسلام الداخلي مع الأكراد، ولم يبذل أي جهدٍ لإنجاحها، أو المشاركة الجدية فيها، خشية تجيير ذلك لمصلحة حزب العدالة والتنمية، بوصفه عرّاب العملية، استخدم لغة ضبابيةً تجاه المستجدات الأمنية الأخيرة، ومع إدانته (أو رفضه) الأعمال الإرهابية لحزب العمال الكردساني (بي كا كا) ضد المؤسسات والمواطنين الأتراك، مراعاةً للأجواء السائدة القومية في البلد، إلا أنه أبقى على تحالفه مع الجناح السياسي لـ "بي كا كا"، أي حزب الشعوب الديموقراطية الذي تجاوز عن مطلب إسقاط السلاح، وتساوق مع عسكر جبال قنديل على حساب الزعيم التاريخي المسجون، عبدالله أوجلان، المصر على الحلول السلمية والديمقراطية، والمؤمن أن زمن الحلول العسكرية والاحتكام إلى السلاح ولّيا.
بناء عليه، سيبقى حزب الشعب مع نسبة تأييد في حدود 25%، وقد يستعيد أصوات متطرفيه
اليساريين الذين صوّتوا لحزب الشعوب في الانتخابات، أخيراً، والبالغة نحو 2% إلى 3%، وقد يعزف هؤلاء عن التصويت احتجاجاً على جمود الحزب، وعجزه عن تحدي حزب العدالة والتنمية، وهيمنته على المشهد السياسي والحزبي في البلد، طوال العقد الماضي.
أما حزب الحركة القومية اليميني، فقدّم روايته، أو فهمه للحروب الدائرة، باعتبارها دليلاً على فشل حزب العدالة والتنمية، وذهابه بعيداً في عملية التسوية والسلام مع الأكراد، بينما كان هؤلاء، أو متطرفوهم على الأقل، يخزّنون السلاح، ويستعدّون للحرب مع عدم التخلي عن حلمهم الانفصالي، وحاول استثمار التظاهرات الداعمة للجيش والشرطة لمصلحته، ولا يمكن إنكار أنه استفاد من المد القومي المتصاعد، وربما يحصد أصواتاً أخرى من القوميين الغاضبين، أو على الأقل يحتفظ بالأصوات الإضافية التي نالها في انتخابات يونيو/حزيران الماضي، من القوميين المعتدلين، والذين يصوّتون في العادة، لمصلحة حزب العدالة والتنمية، منافسه الرئيس في المربع اليميني.
وقد قارب "العدالة والتنمية" الحاكم التطورات الأخيرة بحذر، وهو قدّم نفسه مدافعاً عنيداً وصلباً عن الأمن القومي للبلد في مواجهة الإرهابيين، ومن يتلقون الأوامر، أو على الأقل المساعدات، من الخارج، ووضع الحروب التي يخوضها في سياق منع الأكراد من إقامة منطقة آمنة في سورية. كما التفكير في منطقة حكم ذاتي داخل تركيا نفسها، مع التمسك بسياساته السابقة في الجنوب الشرقي، والتي أدت إلى طفرة اقتصادية اجتماعية في وضع المواطنين الأكراد، مع الإصرار على المضي في عملية التسوية، ولو عبر آليات وأساليب مختلفة، وتحميل حزب الشعوب مسؤولية أساسية عن الوضع المستجد، كونه انحاز إلى دعاة الحل العسكري في جبل قنديل، على حساب داعية الحل السلمي المسجون في جزيرة أمرلي، أي عبدالله أوجلان.
تستهدف رواية حزب العدالة والتنمية جمهوره من الوسط القومي التركي اليميني المعتدل، كما الناخبين الأكراد الذين استفادوا من سياسات الحزب، والمتضررين من التصعيد العسكري الأخير لـ "بي كا كا"، والاستثمارات الخاطئة من حزب الشعوب للثقة التي أعطاها الأكراد له في الانتخابات أخيراً.
بدا حزب الشعوب من جهته محرجاً جدّاً، وتلعثم تجاه التصعيد العسكري لحزب العمال،
خصوصاً بعد جريمة قتل شرطيين وهم في فراشهم، وذهب بعيداً في رواية (أو أكذوبة) دعم السلطات التركية تنظيم داعش، وهي الرواية التى لا يأخذها أحد في تركيا على محمل الجدّ، بما في ذلك كبار المعلّقين اليساريين والمخضرمين في الصحف الداعمة والمؤيدة للحزب، علماً أنها من نسج جماعة فتح الله غولن مع جهات غربيةٍ، سعت، وتسعى، إلى ابتزاز أنقرة، وإجبارها على التحوّل إلى رأس حربة ضد داعش، بغض النظر عن فهمها لمصالحها القومية، كما نظرتها إلى نظام بشار الأسد، بصفته جذر الأزمة في سورية، ومن أحدث البيئة الحاضنة لداعش، والتنظيمات المتطرفة في المنطقة.
قد يحتفظ حزب الشعوب، ومع عزفه على الوتر القومي، بقوته وسط الجمهور الكردي (9% تقريباً)، إلا أنه قد يفقد أصوات الجمهور التركي التي سمحت له، أصلاً، بتجاوز نسبة الحسم في الانتخابات الأخيرة، وسيكون صعباً، بل صعباً جداً، على منابر اليسار الأتاتوركي العلماني، كما إعلام جماعة غولن، مواصلة تلميع صورة الحزب، وتشجيع الناس على التصويت له. والخلاصة، أو الاستنتاج، أن حزب الشعوب قد يعانى كثيراً من أجل تجاوز نسبة الحسم العالية، والبالغة 10%.
في العموم، لا يختلف المشهد السياسي الحالي كثيراً عن الذي رسمته الانتخابات البرلمانية الماضية، ولكن، مع تبدّل في حدود اثنين إلى ثلاثة في قوة هذا الحزب أو ذاك، وتحديداً فيما يتعلق بحزبي العدالة والتنمية والشعوب الديموقراطي، إلا أن هذا التبدل قد يعيد الغالبية المطلوبة إلى الحزب الأول لكي يحكم منفرداً، ولكن، من دون امتلاك القدرة على صياغة دستور جديد بشكل منفرد، وقد يخرج الثاني من البرلمان، من دون مغادرة المشهد السياسي والحزبي فى البلد، وربما يكون السيناريو المثالي ذلك الذي يعطي الغالبية البرلمانية للعدالة والتنمية، ويبقي حزب الشعوب فى البرلمان، ما يجبر الجميع على الجلوس إلى طاولة الحوار لاستئناف عملية التسوية، وفق أسس وقواعد جديدة، على قاعدة إلقاء السلاح فوراً، والتوافق على صياغة دستور مدني ديمقراطي، من دون تغيير النظام السياسي الحالي، دستور يكرس المساواة والندية بين المواطنين، على اختلاف أعراقهم وثقافاتهم.
تركت هذه الحروب، وستترك، في المستقبل القريب، أيضاً، تداعيات واضحة على المشهد السياسي والحزبي في البلد، مع تصاعد المدّ القومي التركي، وبدرجة أقل، الكردي أيضاً. وسعت الأحزاب كافة إلى تقديم روايتها، أو توصيفها تلك الحروب، لاستثمارها، والاستفادة منها في الامتحان الانتخابي الكبير في الأول من نوفمبر/تشرين ثاني المقبل.
بدايةً، لا بد من الإشارة إلى أن حزب الشعب الجمهوري اليساري العلماني الأتاتوركي يبدو وكأنه خارج، أو على الأقل، غير متأثر بالمستجدات، لا سلباً ولا إيجاباً. فالحزب الذي لم يكن له موقف واضح من عملية التسوية والسلام الداخلي مع الأكراد، ولم يبذل أي جهدٍ لإنجاحها، أو المشاركة الجدية فيها، خشية تجيير ذلك لمصلحة حزب العدالة والتنمية، بوصفه عرّاب العملية، استخدم لغة ضبابيةً تجاه المستجدات الأمنية الأخيرة، ومع إدانته (أو رفضه) الأعمال الإرهابية لحزب العمال الكردساني (بي كا كا) ضد المؤسسات والمواطنين الأتراك، مراعاةً للأجواء السائدة القومية في البلد، إلا أنه أبقى على تحالفه مع الجناح السياسي لـ "بي كا كا"، أي حزب الشعوب الديموقراطية الذي تجاوز عن مطلب إسقاط السلاح، وتساوق مع عسكر جبال قنديل على حساب الزعيم التاريخي المسجون، عبدالله أوجلان، المصر على الحلول السلمية والديمقراطية، والمؤمن أن زمن الحلول العسكرية والاحتكام إلى السلاح ولّيا.
بناء عليه، سيبقى حزب الشعب مع نسبة تأييد في حدود 25%، وقد يستعيد أصوات متطرفيه
أما حزب الحركة القومية اليميني، فقدّم روايته، أو فهمه للحروب الدائرة، باعتبارها دليلاً على فشل حزب العدالة والتنمية، وذهابه بعيداً في عملية التسوية والسلام مع الأكراد، بينما كان هؤلاء، أو متطرفوهم على الأقل، يخزّنون السلاح، ويستعدّون للحرب مع عدم التخلي عن حلمهم الانفصالي، وحاول استثمار التظاهرات الداعمة للجيش والشرطة لمصلحته، ولا يمكن إنكار أنه استفاد من المد القومي المتصاعد، وربما يحصد أصواتاً أخرى من القوميين الغاضبين، أو على الأقل يحتفظ بالأصوات الإضافية التي نالها في انتخابات يونيو/حزيران الماضي، من القوميين المعتدلين، والذين يصوّتون في العادة، لمصلحة حزب العدالة والتنمية، منافسه الرئيس في المربع اليميني.
وقد قارب "العدالة والتنمية" الحاكم التطورات الأخيرة بحذر، وهو قدّم نفسه مدافعاً عنيداً وصلباً عن الأمن القومي للبلد في مواجهة الإرهابيين، ومن يتلقون الأوامر، أو على الأقل المساعدات، من الخارج، ووضع الحروب التي يخوضها في سياق منع الأكراد من إقامة منطقة آمنة في سورية. كما التفكير في منطقة حكم ذاتي داخل تركيا نفسها، مع التمسك بسياساته السابقة في الجنوب الشرقي، والتي أدت إلى طفرة اقتصادية اجتماعية في وضع المواطنين الأكراد، مع الإصرار على المضي في عملية التسوية، ولو عبر آليات وأساليب مختلفة، وتحميل حزب الشعوب مسؤولية أساسية عن الوضع المستجد، كونه انحاز إلى دعاة الحل العسكري في جبل قنديل، على حساب داعية الحل السلمي المسجون في جزيرة أمرلي، أي عبدالله أوجلان.
تستهدف رواية حزب العدالة والتنمية جمهوره من الوسط القومي التركي اليميني المعتدل، كما الناخبين الأكراد الذين استفادوا من سياسات الحزب، والمتضررين من التصعيد العسكري الأخير لـ "بي كا كا"، والاستثمارات الخاطئة من حزب الشعوب للثقة التي أعطاها الأكراد له في الانتخابات أخيراً.
بدا حزب الشعوب من جهته محرجاً جدّاً، وتلعثم تجاه التصعيد العسكري لحزب العمال،
قد يحتفظ حزب الشعوب، ومع عزفه على الوتر القومي، بقوته وسط الجمهور الكردي (9% تقريباً)، إلا أنه قد يفقد أصوات الجمهور التركي التي سمحت له، أصلاً، بتجاوز نسبة الحسم في الانتخابات الأخيرة، وسيكون صعباً، بل صعباً جداً، على منابر اليسار الأتاتوركي العلماني، كما إعلام جماعة غولن، مواصلة تلميع صورة الحزب، وتشجيع الناس على التصويت له. والخلاصة، أو الاستنتاج، أن حزب الشعوب قد يعانى كثيراً من أجل تجاوز نسبة الحسم العالية، والبالغة 10%.
في العموم، لا يختلف المشهد السياسي الحالي كثيراً عن الذي رسمته الانتخابات البرلمانية الماضية، ولكن، مع تبدّل في حدود اثنين إلى ثلاثة في قوة هذا الحزب أو ذاك، وتحديداً فيما يتعلق بحزبي العدالة والتنمية والشعوب الديموقراطي، إلا أن هذا التبدل قد يعيد الغالبية المطلوبة إلى الحزب الأول لكي يحكم منفرداً، ولكن، من دون امتلاك القدرة على صياغة دستور جديد بشكل منفرد، وقد يخرج الثاني من البرلمان، من دون مغادرة المشهد السياسي والحزبي فى البلد، وربما يكون السيناريو المثالي ذلك الذي يعطي الغالبية البرلمانية للعدالة والتنمية، ويبقي حزب الشعوب فى البرلمان، ما يجبر الجميع على الجلوس إلى طاولة الحوار لاستئناف عملية التسوية، وفق أسس وقواعد جديدة، على قاعدة إلقاء السلاح فوراً، والتوافق على صياغة دستور مدني ديمقراطي، من دون تغيير النظام السياسي الحالي، دستور يكرس المساواة والندية بين المواطنين، على اختلاف أعراقهم وثقافاتهم.