تركيا وإيران.. قوس الخلافات "والتفاهمات"
العلاقات الثابتة بين تركيا وإيران واحدة من أكثر العلاقات الإقليمية مثاراً للتأمل، ومدعاة لاستخلاص الدروس. وقد جاءت زيارة الرئيس، رجب طيب أردوغان، أخيراً طهران، مصداقا لسياق ثابت ميّز هذه العلاقة. فبينما كانت أنقرة وطهران تتبادلان الاتهامات حول زعزعة الوضع في المنطقة، على خلفية الموقف من انقلاب الحوثيين في اليمن، واندلاع حرب "عاصفة الحزم"، كان الرئيس التركي يلتزم بزيارته المقررة، وأبدى مضيفوه الالتزام نفسه.
في علاقتهما الثنائية، تتصرف قيادتا البلدين على أساس أن ثبات هذه العلاقة يشكل مصلحة راسخة مشتركة، ولا يخطر بالبال أن تتعرض علاقتهما لانتكاسة كبيرة. مصلحة اقتصادية، أولاً، ومع تبادل تجاري بين البلدين وصل، في حده الأدنى، إلى 15 ملياراً، وكان قد ارتفع في السابق إلى 22 مليار دولار، ثم مصلحة سياسية لاستيعاب أزمات الإقليم، كلما أمكن ذلك، ومنع الانعكاسات السلبية لتلك الأزمات على علاقات البلدين، ثم مصلحة ثقافية إن صحت التسمية، فكل من البلدين يمثل وجهاً من وجوه الإسلام السياسي. طهران بحاجة لعلاقة جيدة مع طرف سني وازن في المنطقة، بعد فشلها في إقامة علاقات مع الرياض والقاهرة، وأنقرة بحاجة لمخاطبة الشيعة السياسية من خلال مرجعيتها في طهران.
وقد تبلورت العلاقات الثنائية مع تدني مستوى العلاقات الإسرائيلية التركية في السنوات العشر الأخيرة، ما حرم تل أبيب من اختراق إسلامي ذي شأن. كما تنامت مع تقارب موقف البلدين من الحركة الكردية لجهة الحذر من التطلعات الاستقلالية لهذه الحركة، على الرغم من ميل أنقرة إلى الحلول السياسية للمشكلة، وإنكار طهران وجود مشكلة كردية على أراضيها. وفي الملف النووي الإيراني، ظلت أنقرة تتفهم الموقف الإيراني من المسألة، وتشجع على التفاوض بشأن هذا الملف. وليس معلوماً ما إذا كانت تركيا البلد الصناعي الناهض، والذي يحتل المركز 16 بين اقتصادات العالم، ذات طموحات نووية أم لا.
مع هذه الحزمة من التفاهمات والارتسامات، تبلورت خلافات عميقة بين البلدين، وقد أطلقت رياح الربيع العربي هذه الخلافات، إذ اتخذت طهران موقفا سلبياً منها، باستثناء الوضع في البحرين، فيما أيدت أنقرة هذه الموجة. وفي واقع الحال، مثل دعم إيران الحوثيين في اليمن رداً منها على ثورة فبراير 2012 اليمنية. وذلك جريا على نهج إيراني تبلور في السنوات الخمس الماضية، ومفاده بأن طهران معنية بأوضاع المنطقة العربية، بأكثر من عناية الشعوب العربية بها، فيما رأت أنقرة في هذه الموجة نزوعاً تحررياً للشعوب من جهة، وفرصة لإثبات جدارة الإسلام السياسي المعتدل في التصدر السياسي.
حافظ الطرفان على وتيرة ثابتة في الخلافات، وقد لوحظ أن الدوائر الملتحقة بطهران، مثل حزب الله في لبنان، واظبت في السنوات الماضية، ومن دون انقطاع، على شن حملات على أنقرة وسياستها "العثمانية"، فيما خسرت طهران علاقتها بحماس الفلسطينية المقربة من أنقرة.
وقد جاء نشوب حرب "عاصفة الحزم" ضد الانقلابيين في اليمن، ليفجر خلافات الطرفين، فأنقرة أعلنت تأييدها هذه الحرب، وإن لم تشارك فيها، ووثقت من علاقتها مع الرياض، وأردفت ذلك بأول نقد صريح للسياسات الإيرانية، فيما اعتبرت طهران هذه الحرب مساساً بها، وكأن اليمن محافظة إيرانية.
في زيارته طهران قبل أيام، اتفق أردوغان مع الرئيس الإيراني، حسن روحاني، على حل سلمي للمشكلات ومحاربة الإرهاب، والتصدي لمشكلات الحدود (والمقصود نشاط الحركة الكردية المسلح في المثلث الكردستاني التركي الإيراني)، ولا جديد في ذلك. فلكل طرف منظوره للحلول السلمية، وكذلك للإرهاب. الثابت أن البلدين وقعا اتفاقيات تجارية، بعدما اشتكت أنقرة من ارتفاع سعر الغاز الإيراني، حيث تتزود بأكثر من 90% من احتياجاتها الغازية من طهران. واتفاقيات أخرى في مجالات المواصلات والتجارة العابرة "الترانزيت"، والاستثمارات المشتركة والمجالات الثقافية والعلمية والبحثية.
بهذا، يتبدّى فصل كبير بين السياسة والمجالات الأخرى، وفي مقدمتها الاقتصاد في علاقات البلدين، وهو ما يميز العلاقات بين الكبار، كما كان الحال بين أميركا والاتحاد السوفياتي، وكما هي بين أميركا والصين حالياً. مع ملاحظة الفارق، وهو أنه بينما توظف أنقرة الاقتصاد في خدمة النهضة الصناعية الداخلية، فإن مردود الاقتصاد الإيراني على المواطن الإيراني يكاد يكون غير مرئي، إذ يجري تسييس الاقتصاد، وتتدفق الملايين الإيرانية إلى الخارج، لدعم المليشيات التابعة، وأبواق الإعلام، وتعضيد حرب بشار الأسد على شعبه.
وفي أجواء الزيارة، تبين أن ما جرى ترداده حول رسالة سعودية شفوية، حملها أردوغان إلى المسؤولين الإيرانيين في طهران، لا يعدو، كما دلت وقائع الزيارة ونتائجها، التأكيد على مواقف ثابتة حملها إلى انقرة ولي ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن نايف، عشية توجه أردوغان إلى طهران، من قبيل أن "عاصفة" الحزم لن تتوقف قبل أن تحقق غايتها، وأن فرص الحوار السعودي الإيراني ما فتئت تضيق أكثر فأكثر، مع اندفاع طهران في سياستها التدخلية الفظة، وإن وقف التدخل في اليمن بالذات هو الذي يشجع على الحوار. في واقع الأمر، يمثل وجود علاقات تركية إيرانية حاجزاً يحِدّ من تدهور العلاقات أكثر وأكثر بين دول الخليج (باستثناء سلطنة عمان) ودول عربية أخرى وإيران، ويمنع الأسوأ. وهذا هو مغزى الدور الاستيعابي لأنقرة الذي تمّت الإشارة اليه. وهو دور تنفرد به أنقرة، وليست هناك دولة أخرى كبيرة مؤهلة لأداء هذا الدور، بما في ذلك روسيا العظمى التي باتت سياستها الإقليمية في الشرق الأوسط ملحقة بطهران، وإلا ما الذي يجمع الاتحاد الروسي بمليشيات الحوثيين، وإلى درجة استبسال المندوب الروسي في مجلس الأمن، في منع إصدار قرار يوقع عقوبات على عبد الملك الحوثي، ومعه علي عبدالله صالح؟
وليس بعيداً عن الزيارة، تبرهن تركيا، بقيادتها الحالية، أنها تمثل عمقاً، أو حتى مظلة استراتيجية للعرب في هذه الحقبة. وأنه يكاد يكون من المستحيل مواجهة المطامع الإيرانية المتعاظمة، والتحدي الإسرائيلي الدائم بدون علاقات وثيقة، وتفاهم مكين، معها. وهو دور تزداد أهميته مع الانكفاء الأميركي، والالتحاق الروسي بإيران، على الرغم مما يبدو على العبارة هذه من بعض مبالغة.