يحطّم بيري، من دون أن يقصد، صورة الفنان حسن السمعة التي يميل الجمهور إلى تكوينها عند بزوغ نجم أي فنان فائق الموهبة. وفي حين يذهب بعضهم إلى أنه لا مجال للتعرض للحياة الخاصة للفنان؛ إذ ليس من المفترض أن يعني جمهوره سوى ما يقدمه من فن، تبقى أي محاولة لفهم وتحليل لـ تشاك الظاهرة غير متاحة بمعزل عن أن تشمل تفاصيل حياته الخاصة المثيرة للدهشة بكل أحداثها المتناقضة.
وُلد بيري في سانت لويس، في الجنوب، عام 1926؛ حيث هاجر والداه بحثاً عن وظيفة، كمعظم الأفارقة الأميركيين حينها. ورغم ذلك، كانت أمه من السيدات السوداوات القلائل اللاتي حصلن على تعليم جامعي في تلك الفترة. تعرّض للموسيقى في الكنيسة، وأظهر اهتماماً مبكراً بها، وبالفنون عموماً؛ مثل عمل أبيه بفنون النجارة والخشب، وقريبه بالتصوير الفوتوغرافي. حتى انضم لأول مدرسة ثانوية للسود فقط، وبعد أن نجح أول أداء له على المسرح في حفلة عرض المواهب المدرسية، بدأ دروس الغيتار مع أسطورة الجاز (إرا هاريس).
لم تخل حياته من التعرض إلى العنصرية، وكان للون جلده وعرقه الأثر المعتاد على حياة شخص أسمر في عالم يحكمه البيض، بدءاً من أن جدود أبويه كانوا عبيداً، وحتى الحي المغلق على السود الذي نشأ فيه، للدرجة التي جعلت معرفته بوجود أشخاص بيض البشرة تتأخر حتى الثالثة من عمره، قال في ما بعد: "ظننت أن أحداً قام بإفزاعهم حتى شحبوا وهرب لونهم الأسود بعيداً!".
بدأت الدراما منذ رحلته الأولى إلى كاليفورنيا في السابعة عشرة من عمره، حين قام بسطو مسلح مع رفيقيه على سيارة باستخدام مسدس لا يعمل. خرج تشاك من الإصلاحية بعد قضاء بعض مدته لحسن سلوكه. "أرتكب كارثةً كل خمسة عشر عاماً تقريبا"؛ هكذا قال بيري -بحس دعابته الحاد المعروف- عن نفسه؛ فلاحقاً، سيتم القبض عليه لتعيينه امرأة قاصر بعمر الرابعة عشرة قام بتهريبها عبر الحدود المكسيكية للعمل في ناديه الليلي. حصل بيري على الحكم من المحاكمة الثانية، لأن القاضي كرر استخدام كلمة زنجي أثناء الأولى. ثم بعدها بسنين، يقبض عليه مرة أخرى لتهرّبه من الضرائب، وترفع عليه قضايا مما يقارب 59 من النساء اللاتي اتهمنه بوضع كاميرا لتصويرهن في غرفة الراحة بمطعم يمتلكه.
"لم أر رجلاً يتغير بشدة هكذا"؛ يقول كارل بيركنز صديقه وشريكه الموسيقي حول تغير تشاك بيري بعد سجنه لثاني مرة؛ إذ تحول من رجل مرح سهل الطباع، إلى شخص كئيب حاد، ويلجأ للعنف دوما، وهذا ما عرف عنه لباقى حياته. ربما لعدم وجود القنوات التي تساعد على انتشار هذه الأخبار، وربما لعدم اكتراث الجمهور آنذاك، لم تمثل تلك الحوادث عقبات في طريق تشاك بيري الموسيقي.
بدأ طريقه الموسيقي بعد زواجه. التحق عام 1951 بفرقة زميله الدراسي، وبعدها بعام التحق بفرقة "بيانيست جاز" (جوني جونسون) مجدداً دمها؛ حيث استطاع إدراج أغاني الكنتري سريعة الإيقاع ضمن برنامجها الأدائي من الجاز، والريثم آند بلوز. وفي منتصف الخمسينيات، سافر بيري إلى شيكاغو، مركز صناعة موسيقى السود آنذاك، ليكتب أغنيته الأشهر "ميبيلين"، التي هي نسخته المعدلة من أغنية الكانتري الشهيرة "إيدا رد"، وينضم بها لتسجيلات شركة "تشيس"، وتظل لشهور طويلة على قمة قائمة الأغاني في أميركا. وهنا، ولد الروك آند رول.
تشاك، صاحب الأسلوب المميز، بكل ما أتقنه من موسيقى البلوز وحفظه من كنتري، نجح في خلق إيقاع الروك آند رول المميز، وأرسى قاعدة النغمة مزدوجة الوترين، ومساحة العزف المنفرد والنغمة المتكررة بصوت الغيتار الكهربائي النظيف الخالي من التأثيرات الصوتية داخل الأغنية كعنصر أساسي في بنائها. كل هذا كان بغيتاره الرنان المغني، وأدائه الصوتي الفائق الكاريزما والحيوية والعنف أحياناً، وأدائه المسرحي الحركي الذي طالما بدا فيه كأنما يحاول أن يوصل لمن يشاركهم المسرح شيئاً سبقهم إليه لا يدركونه بعد، وسبقهم إليه الجمهور المشتعل بالفعل أمام المسرح وفهمه بانتقال الطاقة فقط.
ما لا يعرفه كثيرون، أن الحركة الشهيرة التي طالما قام بها على المسرح، وأطلقت عليها الصحافة "مشية البطة"، كانت محاولة لاستعادة كرة من تحت طاولة وهو طفل أثارت ضحك العائلة؛ فتعمّد تكرارها، في قصة تذكرنا بأخرى مثيلة عن حركة منافسه على عرش الروك اند رول، إلفيس بريسلي.
"ذا بيتش بويز"، و"ذا رولنغ ستونز" و"البيتلز". هذه الفرق، تضمنت حفلاتها الأولى الكثير من أغاني بيري، ولا ينكرون تأثيره وفضله على موسيقاهم وخلقه للنوع بشكله المميز، حتى إن كيث ريتشاردز، من فرقة الرولنغ ستونز، قدمه في احتفال "هول أوف فيم" الشهير قائلاً: "هذا الرجل هو من بدأ كل شيء".
رغم توقفه لمدة 38 عاماً عن إصدار الألبومات، ورغم أحداث حياته الشخصية، كان بيري من أكثر الفنانين تقديماً للعروض الحية. في عام 1985، حاز جائزة "غرامي"، وأصبح أول مختار لقاعة الشهرة الخاصة بالروك آند رول الشهيرة بعدها بعام. نشوته كانت على المسرح، حتى إنه لم يتوقف رغم سقوطه من الإعياء على خشبة مسرح ليلة رأس السنة في شيكاغو عام 2011. وفي عيد ميلاده التسعين، أعلن المغني الأسطوري عن ألبومه الجديد، وهو ألبومه الأخير، أطلق عليه اسمه "تشاك، وأنتجه وسجله بنفسه في مسقط رأسه سانت لويس. وعلى العكس من المرحلة الأولى من حياته، حيث سافر بمفرده واعتمد على الموسيقيين المحليين الذين وفرهم منتجو العروض له، صاحبت بيري في تسجيل الألبوم فرقته التي أدى معها لأكثر من عقدين من الزمن شهرياً في نادي بلوبيري هيل، كما سجل معه اثنان من أبنائه، على الغيتار والهارمونيكا. أهدى تشاك الألبوم إلى زوجته قائلاً: "عزيزتي، لقد كبرت! لقد عملت كثيراً على هذا، والآن فقط أستطيع أن أعلق حذائي".