بينما ينشغل المجتمع المصري بمتابعة آثار جائحة كورونا الصحية والاقتصادية، لا يكف النظام المصري عن التوسع في استخدام السلطة الباطشة في التنكيل بالمعارضين من جميع الخلفيات السياسية، وتخويف المواطنين من الخروج عن الحدود التي يرسمها لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي والمجال العام، وقصر ذلك على الدعاية لإنجازات النظام والسباحة في فلكه. كما أنه لا يكف عن التضييق على أي شخص له آراء مخالفة، حتى ولو كان لا ينتمي فعلياً لأي تيار سياسي، أو لا يعارض سياسات النظام، إلا في ما يخصه ويمسه مباشرة من مواضيع، حتى وإن كانت غير سياسية.
فبالتزامن مع فتح قضايا جديدة في نيابة أمن الدولة للمعارضين المغمورين، بتهمة الانتماء إلى جماعات إرهابية وإعانتها على تحقيق أهدافها، ونشر أخبار كاذبة تُضر بالمصلحة العامة للمجتمع، وغيرها من الاتهامات المعتادة، كشفت مصادر قضائية وقانونية عن القبض على "العشرات" من المواطنين، بتهم تتعلق بـ"إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أخبار ومعلومات كاذبة فقط"، دون اتهامهم بالانتماء لجماعات إرهابية، وإحالتهم تباعاً، منذ منتصف إبريل/ نيسان الماضي، إلى محاكمات عاجلة أمام دوائر الجنح، ما يسمح بصدور أحكام سريعة بحبسهم لفترات تمتد من ثلاثة أشهر حتى ثلاث سنوات.
وقالت المصادر إن هذا الاتجاه الجديد بتوجيه اتهامات مذكورة حصراً في قانون جرائم تقنية المعلومات، كان في البداية يتعلق فقط بالمتهمين في قضايا بث محتوى غير أخلاقي من وجهة نظر سلطات الدولة، كالشرطة والنيابة العامة، مثل وقائع القبض على الراقصة سما المصري والفتاتين حنين حسام ومودة الأدهم، وجميعهن من المعروفات ببث محتوى ذي طبيعة ترفيهية على تطبيقات التواصل الاجتماعي، التي زادت معدلات استخدامها في مصر أخيراً، مثل "تيك توك" و"تانجو".
لكن بمرور الوقت بدأت الشرطة تقبض على أشخاص لا يبثون بأي شكل محتوى يمكن وصفه بأنه غير أخلاقي، ومواجهتهم في التحقيقات التي تتم معهم في عجالة بالنيابات الجزئية، وليس نيابة أمن الدولة العليا، بمشاركة منشورات على صفحاتهم الخاصة ذات طابع سياسي واقتصادي، غير مُرحب به من قبل السلطات حالياً. وبحسب المصادر، فإنه يمكن تصنيف المحتوى الذي تم القبض على هؤلاء الأشخاص بسببه إلى خمسة نماذج رئيسية: كتابة منشورات أو تغريدات قصيرة تحمل سخرية من سياسات الدولة أياً كانت مجالاتها، ونشر صور ساخرة من الرئيس عبد الفتاح السيسي والمسؤولين، ومشاركة منشورات أعدها مجهولون تحمل عبارات ساخرة أو تنسب تصريحات غير صحيحة للمسؤولين، ومشاركة منشورات تنتقد تعامل الحكومة مع أزمة كورونا، وأخيراً التواجد في مجموعات على تطبيقي "واتساب" و"تليغرام"، والحديث في السياسة بصورة انتقادية أو ساخرة.
وكشفت المصادر، لـ"العربي الجديد"، أن الأحراز في بعض الوقائع تضمنت محادثات سرية عبر التطبيقين من داخل مجموعات محادثة مختلفة، معظمها لأشخاص مغمورين ليس لهم أي نشاط سياسي حركي، ولا يعملون في وظائف مرموقة على الإطلاق، ما يعكس حجم الجهد الذي تبذله قطاعات وزارة الداخلية المختلفة، وعلى رأسها الأمن الوطني ومباحث الإنترنت، لاختراق أكبر عدد ممكن من مجموعات المحادثة، التي من المفترض أن تكون سرية، لاختراقها والتجسس على أعضائها.
أما سبب المباينة بين عشرات المتهمين، الذين تم القبض عليهم في هذه الوقائع، وتوجيه تهم إليهم بقانون جرائم تقنية المعلومات وليس قانون مكافحة الإرهاب، فأرجعته المصادر إلى عدم وجود أي ملفات أو معلومات تشي بامتدادات سياسية محتملة لهم، فضلاً عن خلو دوائرهم الاجتماعية تقريباً من الشخصيات السياسية المثيرة لقلق الداخلية. وفي هذا الصدد، أشار أحد المصادر، وهو محامٍ حضر تحقيقات حديثاً مع بعض الشبان المضمومين للقضيتين 1898 لسنة 2019 و558 لسنة 2020 حصر أمن دولة، إلى أن كل المطلوب من بعضهم، خلال خضوعهم للاستجواب لعدة أيام في مقار الأمن الوطني قبل الإحالة للنيابة، هو الكشف عن تفاصيل عمل وآراء وتحركات بعض أصدقائهم ومعارفهم من النشطاء السياسيين والشخصيات المعروفة بمواقفها المعارضة للنظام على مواقع التواصل الاجتماعي. والمفارقة أن بعض هؤلاء الأصدقاء طلقاء، وليس مقبوضاً عليهم، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة حول فلسفة الداخلية في اختيار المتهمين وفتح هذه القضايا.
وأوضحت المصادر أنه تم توجيه تُهم مذكورة في المادتين 24 و25 من قانون جرائم تقنية المعلومات للمتهمين في قضايا الجنح الجديدة، مثل "اصطناع بريد إلكتروني، أو موقع، أو حساب خاص ونسبه زوراً لشخص طبيعي أو اعتباري". والقصد بذلك نشر تصريحات منسوبة زوراً، ولو على سبيل السخرية، من بعض الشخصيات العامة. وهذه التهمة عقوبتها الحبس مدة لا تقل عن 3 أشهر، وغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه (نحو 635 دولاراً) ولا تتجاوز 30 ألف جنيه، أو بإحدى العقوبتين.
كما تم توجيه تهم "بالاعتداء على المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري، وانتهاك حرمة الحياة الخاصة، ونشر معلومات، أو أخبار أو صور وما في حكمها، تنتهك خصوصية أي شخص دون رضاه، سواء كانت المعلومات المنشورة صحيحة أم غير صحيحة". وتتوسع النيابة العامة في تفسير مصطلح "المبادئ والقيم الأسرية" بطريقة مطاطة، لتشمل في بعض الحالات السب الذي وجهه بعض المتهمين للمسؤولين أو سياساتهم، وهذه التهمة عقوبتها الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه، ولا تتجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
وذكرت المصادر أن المتهمين في هذه القضايا يعانون حالياً بسبب إحالة معظمهم لمحاكمات سريعة أمام محاكم الجنح، التي لم تعد للعمل حتى الآن بسبب أزمة كورونا. كما أن معظمهم لم يحل إلى سجون عمومية، ما أبقاهم محبوسين داخل أقسام الشرطة لأسابيع دون لقاء محاميهم وذويهم، بصورة مختلفة عن ضحايا الحبس الاحتياطي في قضايا أمن الدولة الذين يتم توزيعهم أولاً بأول على السجون العمومية، وعلى رأسها سجن مزرعة طره.
ورغم تحديد أكثر من أربعة مواعيد للنظر في بعض الحالات المحالة للمحاكمة، إلا أنه من غير المعروف حتى الآن متى ستنعقد الجلسات، وخصوصاً أن قرار وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى بشأن عودة المحاكم للعمل بعد عيد الفطر، وتحديداً من بداية يونيو/ حزيران المقبل، ينص على "العودة التدريجية للمحاكم" دون تفسير، ما يطرح احتمال البدء بتشغيل محكمة النقض ومحاكم الجنايات التي يحضرها عدد أقل من المتهمين والمحامين، قياساً بمحاكم الجنح التي يحضرها في المعتاد عدد كثيف من المتهمين في كل جلسة. ومن غير المعروف حتى الآن كيف ستتعامل الدولة مع عودة المحاكم للعمل في ظل ضعف التجهيزات اللوجيستية، وصعوبة تأمين المنشآت والقاعات ومكاتب سكرتارية الجلسات ضد انتشار الوباء، لا سيما بعد الإعلان عن إصابة 6 من القضاة وأعضاء النيابة العامة بكورونا، بعد أيام معدودة من عودة بعض المحاكم للعمل جزئياً، واكتشاف حالتي إصابة بمحكمة مدينة نصر وغلقها نهاية الأسبوع الماضي.
وكان وزير العدل عمر مروان قد اتفق مع رؤساء الهيئات القضائية على إعادة العمل لجميع المحاكم تدريجياً، مع التشديد على تطبيق الإجراءات الاحترازية، ومنها تحديد عدد الحضور في قاعات المحاكم على ضوء مساحاتها، والحفاظ على مسافة الأمان بين الأشخاص، وارتداء الكمامات للقضاة والمحامين والمتقاضين والموظفين، فضلاً عن إجراء التطهير اليومي لأماكن انعقاد الجلسات، وأن العمل سيستمر خلال أشهر الصيف (الإجازة القضائية السنوية) لتعويض فترة التأجيلات في نظر القضايا والحفاظ على مصالح المواطنين.