06 نوفمبر 2024
تعرية الأساس الفكري للصهيونية
أعادني نبأ وفاة الكاتب الإسرائيلي، بوعز عفرون، في أواسط سبتمبر/ أيلول الفائت، إلى مسوّغاتٍ ظلّ يكرّرها، في معرض مواجهة الصهيونية، على قاعدةٍ مناهضةٍ أساسها الفكري، لا مجرّد معارضته.
وهي مسوّغات وردت أيضًا في كتابه المُهم "الحساب القومي" (1988)، الذي أكدّ فيه، من ضمن أمور أخرى، أنّ الحركة الصهيونية جعلت من يهود المهجر أداة ووسيلة بيديها في سبيل بناء "أمّة وقوة" في فلسطين، وأنّها على الرغم من تشكلها بحجة إيجاد حلّ لـ"ضائقة اليهود"، أمست من أكثر الجهات المعنيّة بتأبيد هذه الضائقة، في سبيل الدفع بأهدافها.
ونظرًا إلى تزامن وفاة عفرون مع إقرار الكنيست الإسرائيلي "قانون أساس القومية"، تنبغي الإشارة أيضًا إلى أنه ساهم، في مطلع تسعينيات القرن العشرين الفائت، برفقة مثقفين إسرائيليين، في تعرية مصطلحات إشكالية على غرار شعب، وأرض، ودولة. وبخصوص الأخير تطرّق عفرون كذلك إلى مصطلح "دولة يهودية"، فحذّر من مغبّة تعريف إسرائيل بأنها "دولة الشعب اليهودي". وقال: إذا كانت دولة الشعب اليهودي، فماذا يفعل العرب هنا؟ وماذا نفعل بهم؟ ترانسفير؟ إنهم آخذون بالتكاثر، وعما قليل سيصبحون نحو نصف السكان، فماذا نفعل بهم وبسائر المواطنين غير اليهود؟ واستند، في تحذيره هذا الذي يمكن اعتباره مُبكّرًا إلى استنتاجات فكرية، جديرة بإعادة التوقف عندها، منها:
أولًا، في حال تعريف الدولة بشكل نافذ بأنها يهودية، أي بأنها دولةٌ ينبغي أن تكون يهودية، يثور السؤال بشأن من هو اليهوديّ؟ وليس بمقدور أحد تحديد ذلك.
ثانيًا، أساس اليهودية كان ولا يزال كتاب التوراة والحضارة الدينية على أصنافها الشتيتة. ودائمًا كانت عبارتا "توراة إسرائيل" و"شعب إسرائيل" مترادفتين.
ثالثًا، في وسع اليهود أن يبقوا موجودين في العالم الواسع، حتى من دون بقاء إسرائيل. فهذه الدولة، وكل الدول في العالم، تنشأ وتختفي. وبالتأكيد، ستختفي إسرائيل بعد مئة أو ثلاثمئة أو خمسمئة عام، لكن يمكن الافتراض أنه طالما بقيت الديانة اليهودية موجودة سيستمر الشعب اليهودي في البقاء، ربما آلاف الأعوام. وبالتالي فوجود "دولة يهوديّة" غير مهم أبدا لاستمرار وجود الشعب اليهودي.
رابعًا، بالنسبة إلى طابع الدولة، في اللحظة التي يجري تعريفها بصورة نافذة بأنها دولة يهودية تدخل في غمار حرب أهلية، لمجرّد جوهر هذا التعريف، ولذا ليس بمقدورها إدامة هذا الإطار السياسي إلا بقوة الذراع.
وبرأي عفرون، إن الطريق الوحيدة التي يمكن عبرها الكفّ عن إدامة هذا الإطار بقوة الذراع تكمن في إنشاء دولةٍ يشعر فيها كل مواطن، بغض النظر عن أصله، بأنها دولته، وبأنه متساوٍ فيها مع كل المواطنين الآخرين.
وقبل أن يصل عفرون إلى خلاصةٍ كهذه، لفت إلى أن الصهيونية حركة وصفها بأنها قومية، رفضت ما سماها "وضعية الشتات"، وسعت إلى تصميم شعب يهودي يكون مغايرًا للشعب اليهودي حسبما كان في زمان ظهورها. معنى ذلك أن الصهيونية، منذ بدايتها، اشتملت على أساس من الرفض الذاتي، وبقدرٍ معيّن على أساسٍ من كراهية الذات أيضًا. ورفض "وضعية الشتات" كان يعني، في الوقت ذاته، رفض ماهية اليهودية وكيانها وطابعها، بموجب ما كانت عليه في المهجر. وهذا الأمر شديد الوضوح في نعوتٍ كثيرة خلعتها الصهيونية على اليهودي الشتاتيّ، الشبيهة تمامًا بالنعوت المعادية للسامية. ومن هذه الناحية، ثمة فعلًا فارق جوهريّ بين الحركة الصهيونية والحركات الأخرى التي قامت في أوساط اليهود في أوروبا الشرقية. لكن الصهيونية وحدها هي التي وضعت نصب عينيها هدف إلغاء ماهية اليهودية، والاستعاضة عنها باختلاق ماهية أخرى مغايرة. واشتمل رفض اليهودية على رفض اليهودية السفارادية، كما أن لغة اللادينو (لغة يهود إسبانيا والبرتغال المدبجة بكلمات وتعابير عبرية) اعتبرت منبوذة وباطلة ليس أقل من لغة الييديش. وهذا يؤول إلى استنتاج أن الصهيونية هي رفض اليهودية. أمّا نجاح الصهيونية في تحقيق هدفها، فيبقى سؤالًا منفصلًا غير مرتبط بأساسها الفكريّ.
وهي مسوّغات وردت أيضًا في كتابه المُهم "الحساب القومي" (1988)، الذي أكدّ فيه، من ضمن أمور أخرى، أنّ الحركة الصهيونية جعلت من يهود المهجر أداة ووسيلة بيديها في سبيل بناء "أمّة وقوة" في فلسطين، وأنّها على الرغم من تشكلها بحجة إيجاد حلّ لـ"ضائقة اليهود"، أمست من أكثر الجهات المعنيّة بتأبيد هذه الضائقة، في سبيل الدفع بأهدافها.
ونظرًا إلى تزامن وفاة عفرون مع إقرار الكنيست الإسرائيلي "قانون أساس القومية"، تنبغي الإشارة أيضًا إلى أنه ساهم، في مطلع تسعينيات القرن العشرين الفائت، برفقة مثقفين إسرائيليين، في تعرية مصطلحات إشكالية على غرار شعب، وأرض، ودولة. وبخصوص الأخير تطرّق عفرون كذلك إلى مصطلح "دولة يهودية"، فحذّر من مغبّة تعريف إسرائيل بأنها "دولة الشعب اليهودي". وقال: إذا كانت دولة الشعب اليهودي، فماذا يفعل العرب هنا؟ وماذا نفعل بهم؟ ترانسفير؟ إنهم آخذون بالتكاثر، وعما قليل سيصبحون نحو نصف السكان، فماذا نفعل بهم وبسائر المواطنين غير اليهود؟ واستند، في تحذيره هذا الذي يمكن اعتباره مُبكّرًا إلى استنتاجات فكرية، جديرة بإعادة التوقف عندها، منها:
أولًا، في حال تعريف الدولة بشكل نافذ بأنها يهودية، أي بأنها دولةٌ ينبغي أن تكون يهودية، يثور السؤال بشأن من هو اليهوديّ؟ وليس بمقدور أحد تحديد ذلك.
ثانيًا، أساس اليهودية كان ولا يزال كتاب التوراة والحضارة الدينية على أصنافها الشتيتة. ودائمًا كانت عبارتا "توراة إسرائيل" و"شعب إسرائيل" مترادفتين.
ثالثًا، في وسع اليهود أن يبقوا موجودين في العالم الواسع، حتى من دون بقاء إسرائيل. فهذه الدولة، وكل الدول في العالم، تنشأ وتختفي. وبالتأكيد، ستختفي إسرائيل بعد مئة أو ثلاثمئة أو خمسمئة عام، لكن يمكن الافتراض أنه طالما بقيت الديانة اليهودية موجودة سيستمر الشعب اليهودي في البقاء، ربما آلاف الأعوام. وبالتالي فوجود "دولة يهوديّة" غير مهم أبدا لاستمرار وجود الشعب اليهودي.
رابعًا، بالنسبة إلى طابع الدولة، في اللحظة التي يجري تعريفها بصورة نافذة بأنها دولة يهودية تدخل في غمار حرب أهلية، لمجرّد جوهر هذا التعريف، ولذا ليس بمقدورها إدامة هذا الإطار السياسي إلا بقوة الذراع.
وبرأي عفرون، إن الطريق الوحيدة التي يمكن عبرها الكفّ عن إدامة هذا الإطار بقوة الذراع تكمن في إنشاء دولةٍ يشعر فيها كل مواطن، بغض النظر عن أصله، بأنها دولته، وبأنه متساوٍ فيها مع كل المواطنين الآخرين.
وقبل أن يصل عفرون إلى خلاصةٍ كهذه، لفت إلى أن الصهيونية حركة وصفها بأنها قومية، رفضت ما سماها "وضعية الشتات"، وسعت إلى تصميم شعب يهودي يكون مغايرًا للشعب اليهودي حسبما كان في زمان ظهورها. معنى ذلك أن الصهيونية، منذ بدايتها، اشتملت على أساس من الرفض الذاتي، وبقدرٍ معيّن على أساسٍ من كراهية الذات أيضًا. ورفض "وضعية الشتات" كان يعني، في الوقت ذاته، رفض ماهية اليهودية وكيانها وطابعها، بموجب ما كانت عليه في المهجر. وهذا الأمر شديد الوضوح في نعوتٍ كثيرة خلعتها الصهيونية على اليهودي الشتاتيّ، الشبيهة تمامًا بالنعوت المعادية للسامية. ومن هذه الناحية، ثمة فعلًا فارق جوهريّ بين الحركة الصهيونية والحركات الأخرى التي قامت في أوساط اليهود في أوروبا الشرقية. لكن الصهيونية وحدها هي التي وضعت نصب عينيها هدف إلغاء ماهية اليهودية، والاستعاضة عنها باختلاق ماهية أخرى مغايرة. واشتمل رفض اليهودية على رفض اليهودية السفارادية، كما أن لغة اللادينو (لغة يهود إسبانيا والبرتغال المدبجة بكلمات وتعابير عبرية) اعتبرت منبوذة وباطلة ليس أقل من لغة الييديش. وهذا يؤول إلى استنتاج أن الصهيونية هي رفض اليهودية. أمّا نجاح الصهيونية في تحقيق هدفها، فيبقى سؤالًا منفصلًا غير مرتبط بأساسها الفكريّ.