01 نوفمبر 2024
تعقيب على تعقيب بشأن أخطاء الإسلاميين
لا يفتأ موضوع تحميل الإسلاميين وحدهم خطايا مرحلة "الربيع العربي" يطل بين حين وآخر، فهذه مسألة محسومة لدى بعضهم، وتدخل في سياق "الحكمة السائدة" التي لا تحتاج إلى فحص لأسسها ومنطقها، فحسب هؤلاء، هذا الأمر "ثابت" لا يحتاج إلى نقاش وتقصّ. ضمن هذا السياق، يأتي تعقيب محمد أحمد بنّيس، في السادس والعشرين من نيسان/أبريل الجاري على مقال لي في 22 من الشهر نفسه بعنوان "أخطاء الإسلاميين... القراءة المُبتَسرة"، والذي جادلت فيه أن تحميل الإسلاميين وحدهم كل الخطايا والرزايا في فترة الثورات العربية ينطوي "على سذاجةٍ تستبطن تبرئة للنظام القمعي العربي، وتظهره، بقصد أم غيره، وكأنه تدخل بشكل (بطولي)، بهدف إنقاذ الدولة الوطنية القُطرية التي كانت على وشك الانهيار، جرّاء سياسات الإسلاميين".
في رده عليّ، ينتقد بنّيس مقدماتٍ افترضتها في مقالي ذاك، خصوصا لناحية حديثي عن "أخطاء كبيرة للإسلاميين في التعاطي مع سنوات الربيع العربي"، ومسؤوليتهم "إلى حد كبير عمَّا آل إليه الوضع العربي اليوم"، خصوصا في السياق المصري. وعلى الرغم من أن مقالي يشير إلى بعض تلك الأخطاء، كانسياقهم "بدافع القلق من محاولات (الدولة العميقة) إعادة إنتاج نفسها ودورها، نحو المغالبة، على الرغم من أنهم رفعوا شعار المشاركة"، أو "بدافع آخر من الخوف على الثورة، ومحاولة حمايتها من ألاعيب أدوات (الدولة العميقة)، كما في مصر، وهو ما أدى بهم إلى أن يكونوا وحدهم في الميدان، بعد أن انفضّ عنهم شركاء الأمس، وبالتالي، سَهُلَ أمر تقويض الثورة، وسحقها على أيدي الثورة المضادة"، غير أنه لا يرى في ذلك إلا محاولة اعتذارية بالنيابة عنهم. فحسب منطق بنّيس، فإن المطلوب إلقاء التهم جزافاً على الإسلاميين وعدم محاولة فهم أسباب أخطائهم، فهم مدانون، مهما فعلوا.
ولا يلقي بنّيس، هنا، بالا لنقد مباشر وجهته إلى الإسلاميين، وتحديدا، الإخوان المسلمين في مصر، ومن دون مقاربة "اعتذارية"، وذلك كما في قولي "ما من شك في أن الإسلاميين، وتحديداً في السياق المصري، عجزوا عن استيعاب تعقيدات المشهد ومآلاته، خصوصا مع تَكَثُّفِ جهود (الدولة العميقة) لإحراج الرئيس محمد مرسي وإضعافه، ثمَّ الانقلاب عليه. وقد ساهم بعض خطاب الإسلاميين، إخواناً كانوا أم غير ذلك، بما في ذلك خصومهم في حزب النور السلفي، عن أسلمة الدولة والحياة، ومحاولة الإخلال بالتوازنات المجتمعية المدنية، في تأليب قوى سياسية كثيرة عليهم، الأمر الذي انتهى بضربةٍ لروح التغيير كلها في المنطقة".
ولكن إذا كانت مقاربتي "الاعتذارية" لا تعجب بنّيس، فما الذي يريده؟
هنا يقحم الكاتب المقاربة "الاتهامية" القائمة على منطق "الحكمة السائدة" أن الإسلاميين لا
يكونون إلا مذنبين ومدانين، أما تقصي الحقائق وفحص أسس الاتهامات فأمر غير مهم، فالأمر، مرة أخرى، "ثابت"، و"معلوم بالضرورة"، ولا يحتاج إلى كثير نقاش. يوظف بنّيس تلك اللازمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، كما يرى هو ومن يتبع خطه التحليلي، فيقول إن الإخوان المسلمين فوجئوا بوقائع الثورة المصرية "مثلما فاجأت القوى الأخرى"، غير أنه يخص "الإخوان" بتهمة المسارعة "إلى الانخراط فيها بغاية التحكم في مساراتها وتطويعها لتلائم رؤيتهم للأوضاع، أي أنهم اتجهوا نحو (المغالبة) التي لم تكن تعني غير إقصاءٍ ممنهجٍ ومدروسٍ للنخب المدنية واليسارية والعلمانية والليبرالية، ما يسمح لهم بالتحكم في مفاصل الدولة والمجتمع، خصوصاً مع منعطف حاسم، مثل انتخابات مجلس الشعب 2011".
ونحن مع اتفاقنا على أن الإخوان فوجئوا، كغيرهم بالثورة في مصر، وشاركوا فيها بعد تردّد، ذلك أنهم هم أكثر من كان سيدفع ثمناً لو فشلت في بداياتها، إلا أن المشكلة هي في اتهامه "الإخوان" بالسعي إلى الإقصاء الممنهج والمدروس للنخب المدنية واليسارية والعلمانية والليبرالية، من دون أن يحدثنا، من باب الموضوعية، عن دور الوصاية على الشعوب التي تظن تلك التيارات أنها تستحقه، ومن دون أن يكلف نفسه عناء الإقرار بأن الثورة في مصر ما أخذت زخماً إلا عندما حسم "الإخوان" أمرهم فيها. والسؤال هنا، ما هي القواعد التي أسس عليها مزاعمه تلك نحو الإخوان!؟ هل لأنهم سيطروا على مجلس الشعب في انتخابات حرة ونزيهة!؟ لم يكن الإخوان بحاجة إلى إقصاء أحد من تلك التيارات، فهي عملياً لم يكن لها حجم معتبر أصلا، ومع ذلك، أتفق معه، ولكن بناء على أرضية مختلفة، على أن "الإخوان" ما كان ينبغي لهم أن يسيطروا على مجلس الشعب ولجنة كتابة الدستور، وبأنه كان من الأولى البحث عن توافقاتٍ لا مغالبة، ذلك أن الثورة لمّا تكن بعد قد رسخت قدميها.
المشكلة الأكبر أن بنّيس يحصر اتهامات الإقصاء في "الإخوان"، ويغض الطرف أن الإقصاء متأصل في البنية الرسمية والنخبوية العربية، بكل ألوانها وتفريعاتها. فلا "الليبرالية" العربية ليبرالية حقيقية، ولا "العلمانية" العربية علمانية حقيقية، ولا "اليسار" العربي يسار حقيقي. هل كان الحبيب بورقيبة ليبراليا حقا؟ أم هل أن محمد البرادعي أو حزب الوفد المصري ليبراليان، وهما من أيدا الانقلاب العسكري في مصر وشاركا في كسر إرادة الصندوق، بغض النظر عن أخطاء "الإخوان" والرئيس محمد مرسي؟ يقال الأمر نفسه عن "العلمانية" العربية التي تمارس "تأميم الدين"، والسيطرة على فضائه العام لخدمة السلطان. أما "اليسار" العربي، فيكفي أن نُذَكِّرَ، هنا، أن كثيرين من رموزه تورطوا في تسويغ سفك دماء السوريين، وهم حين يحملون على "أصولية" الإخوان، تراهم يغضون الطرف عن "ثيوقراطية" إيران وحزب الله اللبناني.
نعم أخطأ الإخوان المسلمون، وهم شركاء في المسؤولية عمّا آل إليه حال ثوراتنا العربية، لكن هذا لا ينبغي أن يكون مبرراً لتبرئة ذمة النظام القمعي العربي، ولا القوى "العلمانية" و"اليسارية" و"الليبرالية" العربية، والتي تحمل تلك الصفات اعتسافاً. الغريب في حال أصحاب منطق "الحكمة السائدة" أنهم لا يرون الإسلاميين مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وبعضهم ارتاح إلى منطق حرمانهم من المنافسة الحرة والشريفة في صناديق الاقتراع، ومن ذلك المرارة التي يشعر بها بنّيس أن "الإخوان" لم يدعموا حمدين صباحي للرئاسة، على الرغم من أن الأحداث أثبتت أن الرجل لا يؤمن بحرية الشعب ولا يحترمه، وانتهى به الأمر مُحَلِّلا انقلاب عبد الفتاح السيسي. أما تغنيه بحكمة حركة النهضة التونسية، فهي من باب أنهم قبلوا بانقلاب أبيض وناعم، بدل انقلاب دموي كما في مصر، وقد سمعت من الشيخ راشد الغنوشي مباشرة عندما سأله أحدهم عن الفرق بين "النهضة" و"الإخوان"، فأجابه أن السؤال ينبغي أن يكون عن الفرق بين مصر وتونس، فمصر غير تونس استراتيجياً وثقلاً.
بالنسبة لأصحاب منطق اتهام الإسلاميين دائما، إذا شارك الإسلاميون في الانتخابات وفازوا اتهموهم بالمغالبة، وإذا خسروا، قالوا إن "ربيعهم" شارف على الأفول، أما الأدهى فيتمثل باتهامهم بأنهم شركاء للأنظمة القمعية في الحال الآسن الذي تقبع فيه أمة العرب. ألم يزعم هؤلاء، غير مرة، أن الإسلاميين استفادوا من غض كثير من الأنظمة طرفها عنهم، ويلومونهم على تنظيمهم القوي، وهم من تعرّضوا للسحق، كما في مصر وسورية وتونس، على مدى عقود؟ العيب ليس في "الإخوان" وحدهم، وإنما في تيارات "ليبرالية" و"علمانية" و"يسارية"، أيضا، تحالفت مع الدولة القمعية العربية، وهي إلى اليوم عاجزة عن أن تقدم بديلاً معقولاً، لتلك الأنظمة أو الإسلاميين. يرون القذى في عيون الإسلاميين، ولا يرون الجذع في أعينهم.
في رده عليّ، ينتقد بنّيس مقدماتٍ افترضتها في مقالي ذاك، خصوصا لناحية حديثي عن "أخطاء كبيرة للإسلاميين في التعاطي مع سنوات الربيع العربي"، ومسؤوليتهم "إلى حد كبير عمَّا آل إليه الوضع العربي اليوم"، خصوصا في السياق المصري. وعلى الرغم من أن مقالي يشير إلى بعض تلك الأخطاء، كانسياقهم "بدافع القلق من محاولات (الدولة العميقة) إعادة إنتاج نفسها ودورها، نحو المغالبة، على الرغم من أنهم رفعوا شعار المشاركة"، أو "بدافع آخر من الخوف على الثورة، ومحاولة حمايتها من ألاعيب أدوات (الدولة العميقة)، كما في مصر، وهو ما أدى بهم إلى أن يكونوا وحدهم في الميدان، بعد أن انفضّ عنهم شركاء الأمس، وبالتالي، سَهُلَ أمر تقويض الثورة، وسحقها على أيدي الثورة المضادة"، غير أنه لا يرى في ذلك إلا محاولة اعتذارية بالنيابة عنهم. فحسب منطق بنّيس، فإن المطلوب إلقاء التهم جزافاً على الإسلاميين وعدم محاولة فهم أسباب أخطائهم، فهم مدانون، مهما فعلوا.
ولا يلقي بنّيس، هنا، بالا لنقد مباشر وجهته إلى الإسلاميين، وتحديدا، الإخوان المسلمين في مصر، ومن دون مقاربة "اعتذارية"، وذلك كما في قولي "ما من شك في أن الإسلاميين، وتحديداً في السياق المصري، عجزوا عن استيعاب تعقيدات المشهد ومآلاته، خصوصا مع تَكَثُّفِ جهود (الدولة العميقة) لإحراج الرئيس محمد مرسي وإضعافه، ثمَّ الانقلاب عليه. وقد ساهم بعض خطاب الإسلاميين، إخواناً كانوا أم غير ذلك، بما في ذلك خصومهم في حزب النور السلفي، عن أسلمة الدولة والحياة، ومحاولة الإخلال بالتوازنات المجتمعية المدنية، في تأليب قوى سياسية كثيرة عليهم، الأمر الذي انتهى بضربةٍ لروح التغيير كلها في المنطقة".
ولكن إذا كانت مقاربتي "الاعتذارية" لا تعجب بنّيس، فما الذي يريده؟
هنا يقحم الكاتب المقاربة "الاتهامية" القائمة على منطق "الحكمة السائدة" أن الإسلاميين لا
ونحن مع اتفاقنا على أن الإخوان فوجئوا، كغيرهم بالثورة في مصر، وشاركوا فيها بعد تردّد، ذلك أنهم هم أكثر من كان سيدفع ثمناً لو فشلت في بداياتها، إلا أن المشكلة هي في اتهامه "الإخوان" بالسعي إلى الإقصاء الممنهج والمدروس للنخب المدنية واليسارية والعلمانية والليبرالية، من دون أن يحدثنا، من باب الموضوعية، عن دور الوصاية على الشعوب التي تظن تلك التيارات أنها تستحقه، ومن دون أن يكلف نفسه عناء الإقرار بأن الثورة في مصر ما أخذت زخماً إلا عندما حسم "الإخوان" أمرهم فيها. والسؤال هنا، ما هي القواعد التي أسس عليها مزاعمه تلك نحو الإخوان!؟ هل لأنهم سيطروا على مجلس الشعب في انتخابات حرة ونزيهة!؟ لم يكن الإخوان بحاجة إلى إقصاء أحد من تلك التيارات، فهي عملياً لم يكن لها حجم معتبر أصلا، ومع ذلك، أتفق معه، ولكن بناء على أرضية مختلفة، على أن "الإخوان" ما كان ينبغي لهم أن يسيطروا على مجلس الشعب ولجنة كتابة الدستور، وبأنه كان من الأولى البحث عن توافقاتٍ لا مغالبة، ذلك أن الثورة لمّا تكن بعد قد رسخت قدميها.
المشكلة الأكبر أن بنّيس يحصر اتهامات الإقصاء في "الإخوان"، ويغض الطرف أن الإقصاء متأصل في البنية الرسمية والنخبوية العربية، بكل ألوانها وتفريعاتها. فلا "الليبرالية" العربية ليبرالية حقيقية، ولا "العلمانية" العربية علمانية حقيقية، ولا "اليسار" العربي يسار حقيقي. هل كان الحبيب بورقيبة ليبراليا حقا؟ أم هل أن محمد البرادعي أو حزب الوفد المصري ليبراليان، وهما من أيدا الانقلاب العسكري في مصر وشاركا في كسر إرادة الصندوق، بغض النظر عن أخطاء "الإخوان" والرئيس محمد مرسي؟ يقال الأمر نفسه عن "العلمانية" العربية التي تمارس "تأميم الدين"، والسيطرة على فضائه العام لخدمة السلطان. أما "اليسار" العربي، فيكفي أن نُذَكِّرَ، هنا، أن كثيرين من رموزه تورطوا في تسويغ سفك دماء السوريين، وهم حين يحملون على "أصولية" الإخوان، تراهم يغضون الطرف عن "ثيوقراطية" إيران وحزب الله اللبناني.
نعم أخطأ الإخوان المسلمون، وهم شركاء في المسؤولية عمّا آل إليه حال ثوراتنا العربية، لكن هذا لا ينبغي أن يكون مبرراً لتبرئة ذمة النظام القمعي العربي، ولا القوى "العلمانية" و"اليسارية" و"الليبرالية" العربية، والتي تحمل تلك الصفات اعتسافاً. الغريب في حال أصحاب منطق "الحكمة السائدة" أنهم لا يرون الإسلاميين مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وبعضهم ارتاح إلى منطق حرمانهم من المنافسة الحرة والشريفة في صناديق الاقتراع، ومن ذلك المرارة التي يشعر بها بنّيس أن "الإخوان" لم يدعموا حمدين صباحي للرئاسة، على الرغم من أن الأحداث أثبتت أن الرجل لا يؤمن بحرية الشعب ولا يحترمه، وانتهى به الأمر مُحَلِّلا انقلاب عبد الفتاح السيسي. أما تغنيه بحكمة حركة النهضة التونسية، فهي من باب أنهم قبلوا بانقلاب أبيض وناعم، بدل انقلاب دموي كما في مصر، وقد سمعت من الشيخ راشد الغنوشي مباشرة عندما سأله أحدهم عن الفرق بين "النهضة" و"الإخوان"، فأجابه أن السؤال ينبغي أن يكون عن الفرق بين مصر وتونس، فمصر غير تونس استراتيجياً وثقلاً.
بالنسبة لأصحاب منطق اتهام الإسلاميين دائما، إذا شارك الإسلاميون في الانتخابات وفازوا اتهموهم بالمغالبة، وإذا خسروا، قالوا إن "ربيعهم" شارف على الأفول، أما الأدهى فيتمثل باتهامهم بأنهم شركاء للأنظمة القمعية في الحال الآسن الذي تقبع فيه أمة العرب. ألم يزعم هؤلاء، غير مرة، أن الإسلاميين استفادوا من غض كثير من الأنظمة طرفها عنهم، ويلومونهم على تنظيمهم القوي، وهم من تعرّضوا للسحق، كما في مصر وسورية وتونس، على مدى عقود؟ العيب ليس في "الإخوان" وحدهم، وإنما في تيارات "ليبرالية" و"علمانية" و"يسارية"، أيضا، تحالفت مع الدولة القمعية العربية، وهي إلى اليوم عاجزة عن أن تقدم بديلاً معقولاً، لتلك الأنظمة أو الإسلاميين. يرون القذى في عيون الإسلاميين، ولا يرون الجذع في أعينهم.