يواصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب في العام الجديد استفزاز المجتمع العالمي عبر تغريداته وابتزاز الدول عبر مقايضة المواقف السياسية والأخلاقية بالمساعدات المالية. عبر هذه السياسة التي تتناقض مع شعار "أميركا العظيمة" الذي أعلن عنه في خطاب تنصيبه، ربما تتحول أميركا من العظمة إلى "دولة منبوذة" خلال سنوات قليلة، فهو يفقد أوروبا وثقة الحلفاء في آسيا بعجلة متسارعة منذ تسلمه زمام الأمور في واشنطن.
ويرمي ترامب عبر هذا الابتزاز بحلفاء أميركا في أحضان بكين التي تعمل على "تدويل اليوان" وتحويل مجرى تمويل التجارة العالمية من الدولار، وتدريجياً يعجل بنهاية الهيمنة الأميركية القائمة على "دولرة الاقتصاد العالمي"، الذي مكن أميركا من الاستدانة بلا حدود وتمويل العجز المتواصل في الميزانيات الأميركية عبر إصدار السندات.
كان آخر هذه التغريدات الاستفزازية تعليق المساعدات الأمنية لباكستان البالغة 255 مليون دولار سنوياً.
وقال ترامب في تغريدته "أعطت الولايات المتحدة وبحماقة باكستان أكثر من 33 مليار دولار من المساعدات في السنوات الـ15 الأخيرة، في حين لم يعطونا سوى أكاذيب وخداع معتقدين أن قادتنا أغبياء. إنهم يقدمون ملاذاً آمناً للإرهابيين الذين نتعقبهم في أفغانستان. انتهى الأمر"! وهو ما ردت عليه باكستان بالتحول عن الدولار إلى اليوان في تسوية صفقاتها التجارية والاستثمارية مع الصين.
وبعد يوم واحد من تغريدة الرئيس ترامب التي انتقد فيها باكستان بقسوة، قال البنك المركزي الباكستاني في بيان، إنه سيعتمد اليوان في التجارة والاستثمارات مع الصين.
وبالتالي تنضم باكستان إلى مجموعة من الدول التي تحولت أخيراً من الدولار، بسبب استفزاز ترامب، وبعضها دول نفطية يعتمد عليها الدولار في غطائه وجاذبيته العالمية كعملة "احتياط دولية"، مثل إيران وفنزويلا وأنغولا التي باتت تتعامل باليوان، لتنضم إلى دول "بريكس" التي تضم كلاً من روسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا والهند، وهي دول تتزعمها الصين وتعمل على بناء "نظام مالي عالمي" جديد مواز للنظام الحالي، ولكنه غير قائم على الدولار أو" نظام التحويلات سويفت" الذي استهلكته أميركا عبر سياسات الحظر المتواصلة.
وذكر البيان الباكستاني الذي نقلت نصه صحيفة "دون نيوز" الباكستانية الصادرة بالإنكليزية "لقد وضع البنك المركزي هيكل التشريعات اللازمة لاستخدام اليوان في صفقات التجارة والاستثمار". ومنذ صعود دونالد ترامب وتسلمه السلطة في واشنطن بدأت باكستان، التي كانت من أهم حلفاء واشنطن في آسيا، تستشعر بالخطر القادم من واشنطن، وفتحت الحوار التجاري والاقتصادي مع الصين.
وفي ذات الصدد، قالت وكالة الأناضول التركية يوم الخميس، إن وزير الدولة الباكستاني للشؤون المالية رانا أفضل، أعلن موافقة البنك المركزي رسمياً على استخدام اليوان الصيني في التعاملات التجارية الثنائية بين إسلام أباد وبكين.
وقال الوزير أفضل للأناضول، يوم الخميس، "لقد أصدر بنك باكستان الوطني (المركزي) تعميماً وسمح رسمياً للشركات العامة والخاصة في باكستان باستخدام العملة الصينية في التجارة الثنائية والأنشطة الاستثمارية".
وأوضح أنه "من شأن هذه الخطوة تخفيف العبء عن باكستان فيما يتعلق بالاعتماد على الدولار".
ويذكر أن خطوة تحول باكستان من الدولار إلى اليوان ستسمح لها كذلك بشراء عقود نفط باليوان من بورصة شنغهاي التي ستفتح رسمياً للتداول في النصف الثاني من الشهر الجاري. وهو ما سيعمل على تخفيف الضغط على البنك المركزي الباكستاني في توفير الدولارات للاستيراد.
ولفت الوزير إلى أن حجم التجارة السنوية المتبادلة بين بلاده والصين يصل إلى حوالي 15 مليار دولار.
وأضاف أنه "من المتوقع أن تتعزز العلاقات التجارية بين البلدين بعد إطلاق مشروع "الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني" (كبيك). ومن خلال اعتماد العملة الصينية في التبادلات التجارية كبديل للدولار، سيكون باستطاعة بكستان الاستعاضة عن الدولار في تعاملاتهما واستثماراتهما ضمن مشروعات الممر الاقتصادي الجديد الذي يعد جزءاً من استراتيجية "الحزام والطريق" الرامية لربط التجارة الصينية بأكثر من 30 دولة بممرات الطرق البرية والسكك الحديد والموانئ البحرية.
ويهدف مشروع "كبيك" الذي تموله الصين وتبلغ قيمته 54 مليار دولار إلى ربط إقليم شينشيانغ شمال غربي الصين، ذي الأهمية الاستراتيجية، بميناء غوادار في بلوشستان من خلال شبكة من الطرق والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب لنقل البضائع والنفط والغاز.
ومن المتوقع أن يوفر الممر الاقتصادي للصين إمكانية أرخص تكلفة للوصول إلى أفريقيا والشرق الأوسط وأن يكسب باكستان مليارات الدولارات من خلال توفير مرافق النقل والعبور إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وذلك حسب تصريحات خبراء لوكالة الأناضول.
وكانت باكستان قد وقعت مع الصين في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي خطة طويلة الأمد للتعاون الاقتصادي تمتد بين العام 2017 و2030. ومن المتوقع أن تجد الشركات الباكستانية بعض المقاومة من الشركات الصينية في قبول التسوية بالروبية الضعيفة.
وتشير صحيفة "فيرست بوست" الهندية الصادرة بالإنكليزية إلى أن التعاون بين بكين وإسلام أباد يذهب إلى اكثر من مجالات الاقتصاد والنقد، حيث يتناول قضايا فتح سوق الأسهم الباكستانية أمام المستثمرين الصينيين ودعم احتياجات البنك المركزي الباكستاني من العملات الصعبة.
وحسب الاتفاق الصيني الباكستاني، فإن تمويل المشاريع الواقعة ضمن الممر الاقتصادي سيتم باليوان وليس بالعملة الباكستانية، كما سيتم استخدام مواد وتقنيات صينية. وهذا الأمر سيصب في مصلحة تدويل اليوان وإنعاش الشركات الصينية وصناعة الحديد والصلب التي تعاني من أزمة في السنوات الأخيرة بعد ثورة تحديث البنية الأساسية الهائلة التي عكفت على تنفيذها الصين.
وحسب تعليقات خبراء لصحيفة "فيرست بوست" الهندية، فإن الاتفاقات التي وقعتها الحكومة الباكستانية مع الصين ستعني الربط الكامل للاقتصاد الباكستاني مع الصين. وبالتالي فمن المتوقع أن تفقد أميركا باكستان كحليف استراتيجي بسبب هذه التغريدة وسياسات ترامب العدائية مع حلفاء بلاده.
ويميل الميزان التجاري بين البلدين لصالح بكين، حيث يبلغ العجز التجاري لباكستان مع الصين نحو 12 مليار دولار، حسب الإحصائيات الباكستانية.
ويعمل البنك المركزي الصيني تجاه تدويل اليوان في وقت يملك فيه احتياطات تفوق 3 ترليونات دولار، تساعده في خطوة التدويل وتحسباً لاحتمالات حدوث حرب تجارية تشعلها سياسات الرئيس دونالد ترامب.
ولدى بنك الشعب الصيني حوالى 24 اتفاقية لتبادل العملات مع البنوك المركزية العالمية تقدر قيمتها بحوالى 2.71 ترليون يوان. وهذه الاتفاقات تعني عملياً عدم استخدام الدولار في التسويات التجارية. وهو ما يعني التحول تدريجياً من" دولرة التجارة العالمية" إلى نظام تجاري جديد تقوده الصين ويهدف إلى بناء "نظام نقدي مواز" ينافس الدولار.