فسرت مصادر قضائية بوزارة العدل المصرية إقدام الهيئة الوطنية للانتخابات على إحالة جميع الناخبين الذين تخلفوا عن التصويت في الجولة الأولى من انتخابات مجلس الشيوخ، إلى النيابة العامة، بأنها محاولة مبكرة لحشد الناخبين للمشاركة في انتخابات مجلس النواب المقبلة، التي لم يتقرر حتى الآن موعد إجرائها، وذلك لتلافي تكرار سيناريو فشل النظام وأجهزته في إدارة انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة، وتدني مستوى المشاركة فيها وعجزه عن رفع نسب المشاركة المسجلة عن 14 في المائة.
وأوضحت المصادر، لـ"العربي الجديد"، أنّ هذه المرة الأولى التي يبدو فيها النظام جاداً في تنفيذ تهديده التشريعي الدائم بمعاقبة المتخلفين عن التصويت بغرامة لا تجاوز 500 جنيه (31 دولارا أميركيا)، كاشفةً عن طلب النيابة العامة في الساعات الأخيرة، عقد اجتماع رفيع المستوى يضم ممثلين عن مجلس القضاء الأعلى ومجلس إدارة الهيئة الوطنية للانتخابات، وبحضور ممثلين عن وزارة الداخلية، لمناقشة الخطوات التنفيذية الممكن اتخاذها لتطبيق قرار التغريم، الذي سيطاول أكثر من 54 مليون مواطن، يمثلون نسبة 86 في المائة من إجمالي المقيدين في قاعدة الناخبين.
دعوة لاجتماع رفيع المستوى لمناقشة الخطوات التنفيذية الممكن اتخاذها لتطبيق قرار التغريم
وكشفت المصادر النقاب عن وجود أفكار عدة لتنفيذ هذه العقوبة، إذ يبدأ التنفيذ في كل الأحوال بإرسال هيئة الانتخابات كشوفا بأسماء من لم يدلوا بأصواتهم إلى النيابة العامة، ثمّ سيكون هناك مسار من اثنين؛ أولهما تحريك دعوى جنائية جماعية ضدّ جميع مقاطعي الانتخابات في كل منطقة جغرافية على حدة، بحيث يتم إعلامهم بسير إجراءات القضية ثمّ المضي في تداولها حضورياً أو غيابياً، وإصدار أحكام سريعة بالغرامة ضدهم، وتقييدها في السجل الجنائي الخاص بكل مواطن. وهناك مقترح آخر ضمن المسار الأول يقضي بالاكتفاء في تلك القضايا، بإصدار الحكم وفقاً لمحاضر التحريات التي ستعدها الشرطة عن المواطنين، والتي لن تكون دقيقة أو مسهبة التفاصيل بطبيعة الحال نظراً لاستحالة جمع معلومات واقعية وآنية عن جميع المتهمين بالمقاطعة، والاكتفاء بالإعلان في دائرة كل قسم عن حضور المواطنين لجلسة القضية، تهرباً من ضرورة إعلام كل مواطن بالدعوى بإرسالها إلى منزله وفقاً لقانون الإجراءات الجنائية، وهو ما يعتبر مستحيلاً عملياً بسبب ضخامة العدد والتكاليف الباهظة التي ستتكبدها وزارة العدل لإعلام المواطنين.
أمّا المسار الثاني المقترح، فهو أن يصدر قرار الغرامة مباشرة من النيابة العامة، الأمر الذي يتطلب "إسناداً قضائياً مبتكراً"، بحسب المصادر، نظراً لالتفاف هذا المسار على ضرورة عرض أمر كل مقاطع على المحكمة لإصدار حكم قضائي بشأنه، وفق حالة كل شخص، وتقدير القاضي للأعذار التي منعته من التصويت، وهو ما يحكم التدرج في الغرامة الموقعة حتى حدها الأقصى 500 جنيه.
وأشارت المصادر إلى أنه إذا تمّ الاكتفاء بتغريم كل مقاطع 10 جنيهات فقط، يمكن تحصيلها من خلال مكاتب البريد مثل غرامات المرور. وسيجد المقاطع نفسه مضطراً لدفعها حتى لا ينفق آلاف الجنيهات للطعن على الحكم أو التظلّم ضده. وهذا الأمر سيوفر للدولة أكثر من 540 مليون جنيه، مع ملاحظة أنه من الممكن فرض غرامات متدرجة على المواطنين حسب أماكن معيشتهم ووظائفهم، مما يتيح إمكانية جمع مبالغ أكبر بكثير، قد تصل إلى 5 مليارات. وهو ما يتماشى مع توجه النظام الحاكم، خصوصاً بعد إنفاق مئات الملايين على انتخاب مجلس صوري سيكلف انعقاده بانتظام نحو 700 مليون جنيه سنوياً، على حدّ حساب المصادر ذاتها، بالنظر للميزانية الحالية لمجلس النواب وهي مليار و400 مليون جنيه، وعدد أعضائه الذي لن يقل عن 180 بموجب الدستور، بالإضافة لنحو 300 موظف كانوا قد انتقلوا من مجلس الشورى إلى مجلس النواب، وفي الغالب سيعودون مرة أخرى لمباشرة أعمالهم السابقة.
بيد أنّ الأهمية الأكبر من هذا المستجد، وفقاً للمصادر، هي ضمان مشاركة أوسع في انتخابات مجلس النواب المقبلة، مؤكدةً أنّ هناك غضباً داخل قصر السيسي ودائرته إزاء أسلوب إدارة جهاز الأمن الوطني لانتخابات الشيوخ الأخيرة، وفشله في حشد المواطنين، على الرغم من المساعدات اللوجستية والتنفيذية الكبيرة لعقد المؤتمرات الانتخابية والمسيرات الدعائية وإنفاق ملايين الجنيهات على بنود جديدة تعتمد للمرة الأولى في استحقاق انتخابي، مثل وسائل التأمين الطبي المكثفة والإجراءات الاحترازية لمنع انتشار فيروس كورونا المستجد. فضلاً عن أنّ فكرة استخدام الغرامة التي سبق التلويح بها مراراً من دون تطبيق، هي توجه شخصي من السيسي نفسه، نظراً لتعامله بحساسية كبيرة مع نسب المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات بعد انقلاب يوليو/تموز 2013.
غضب داخل قصر السيسي ودائرته إزاء أسلوب إدارة جهاز الأمن الوطني لانتخابات الشيوخ الأخيرة
ومنذ صعود عبد الفتاح السيسي للسلطة، وهناك اهتمام كبير بمسألة نسبة المشاركة في الانتخابات، بغية كسر نسب المشاركة القياسية وغير المسبوقة التي تم تسجيلها في الاستحقاقات الخمسة التي أجريت في أعقاب ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وهي استفتاء التعديلات الدستورية، وانتخابات مجلسي الشعب والشورى التي فاز بها حزب "الحرية والعدالة"، والرئاسة التي فاز بها محمد مرسي، واستفتاء دستور 2012.
وأثمرت هذه الرغبة في كسر نسب المشاركة المسجلة مفارقات مثيرة للسخرية. فعلى سبيل المثال، أعلنت هيئة الانتخابات أنّ المشاركة في استفتاء التعديلات الدستورية الذي أجري في أبريل/نيسان 2019 بلغت 44.3 في المائة، لتصبح بذلك في الأوراق الرسمية، ثاني أكبر استحقاق لجهة نسبة المشاركة بعد انتخابات مجلس الشعب عام 2011، متفوّقة على استحقاقات سجلت ذاكرة المشاركين فيها قبل عدسات المصورين، طوابير حاشدة وإقبالاً غفيراً على اللجان. وهو ما اعتُبر من قبل كثيرين محاولة مفضوحة لخداع العالم والرأي العام المحلي، خصوصاً وأنه تمّ توزيع الناخبين على اللجان بطريقة كانت كفيلة بتكدّسهم، مما تسبّب بتعطيل مروري أمام المجمّعات الانتخابية على مدار أيام التصويت الثلاثة داخل مصر، فقد تراوح عدد الناخبين في كل لجنة بين 4 آلاف و10 آلاف ناخب، علماً بأن كل الاستحقاقات السابقة كانت اللجان فيها تضم على الأكثر 2500 ناخب.
وكانت الهيئة قد لجأت إلى تلك الطريقة في محاولة للتصدي لدعوات مقاطعة القضاة للإشراف على الاستفتاء، مع زيادة المبلغ المالي الممنوح للقاضي في كل لجنة خلال الأيام الثلاثة للاستفتاء إلى 14 ألفاً و15 ألف جنيه (نحو 874 دولاراً)، علماً بأن أكبر بدل تقاضاه القضاة في السابق كان 7 آلاف جنيه في انتخابات الرئاسة 2018، مما أدى إلى اختصار عدد اللجان إلى 14 ألفاً تقريباً.
وعلى الرغم من محاولات الحشد باستخدام وسائل الترغيب تارة والتخويف المتكرر دائماً من تغريم المتخلفين عن التصويت، فإنّ انتخاب السيسي نفسه للولاية الثانية عام 2018 كان بعد المد والتحسين 41.05 في المائة، ليكون الأقل -رسمياً حتى انتخابات الشيوخ الأخيرة- منذ رحيل الرئيس المخلوع حسني مبارك عن السلطة.