أحمد هو أحد النازحين الفارين من تل أبيض. تمكن من الوصول إلى مدينة أكشاكالا التركية منذ أربعة أيام بعد سماح قوات حرس الحدود التركية للنازحين الفارين من تل أبيض وريفها بالدخول إلى الأراضي التركية. بات أحمد ليلتين في منزل أحد سكان المدينة التركية قبل أن يقرر مع عائلته العودة إلى تل أبيض التي انسحب منها "داعش" من دون أن تجري المعركة الكبيرة التي انتظرها الجميع في المدينة والتي افترض سكانها أنها ستكون سبباً في موتهم فدفعهم ذلك إلى الهرب من المدينة.
صباح أول من أمس الأربعاء، فتحت السلطات التركية معبر تل أبيض الحدودي للسوريين الراغبين بالعودة إلى المدينة التي باتت تحت سيطرة وحدات "حماية الشعب" الكردية، فعبرت عائلة أحمد مع نحو مئتي عائلة أخرى الحدود نحو تل أبيض، ليجدوا مدينتهم خالية من سكانها، إلا من بضع مئات فقط فضّلوا البقاء لآخر لحظة في المدينة.
الباقون في المدينة، على قلتهم، فرحون برحيل "داعش". اليوم بات التدخين مسموحاً، النساء لسن مضطرات لارتداء ملابس سوداء، الصلاة في الجامع اختيارية. أما القفص الذي وضعه "داعش" في ساحة المدينة الرئيسية لسجن مخالفي أحكامه فيه طول الظهيرة فبات خالياً. بدورها، مكاتب التنظيم ومحاكمه باتت مغلقة، في حين أن سيارات التنظيم لا تتجول في الأحياء لتفرض الرهبة على السكان.
لكن المدينة خلت من معظم ساكنيها الذين فرّوا منها. البعض هرب من انتقام الوحدات الكردية. فمنتسبو تنظيم "داعش" من أبناء المدينة وعائلاتهم غادروا مبكراً لأنهم يعرفون تماماً أن الوحدات الكردية لن تتردد بمحاسبتهم وعقابهم. هؤلاء غادروا باتجاه مدينة الرقة والمناطق التي يسيطر عليها "داعش" في ريفها.
وعدد هؤلاء ليس كبيراً. عاملون في مجال الإغاثة يُقدّر عددهم الكلي بنحو ألفين إلى ثلاثة آلاف. أما الباقون، وهم الغالبية، أي حوالى خمسة وعشرين ألفاً حسب مصادر محلية في أكشاكلا التركية، فرّوا خوفاً من غارات التحالف الدولي التي تستهدف تنظيم "الدولة الإسلامية"، التي لم تبق حجراً على حجر في المباني التي تمترس بها عناصر التنظيم الذين قاتلوا الوحدات الكردية وقوات المعارضة المتحالفة معها في ريفي تل أبيض الشرقي والغربي قبل انسحابهم الكامل من المنطقة.
اقرأ أيضاً: فصائل المعارضة السورية: وحدة أراضي البلاد "خط أحمر"
فرّت الغالبية أيضاً خوفاً من الاشتباكات والقصف المتبادل الذي كان متوقعاً في حال تحولت معركة تل أبيض إلى معركة كسر عظم بين الطرفين، الأمر الذي لم يحصل بسبب انسحاب "داعش" الكلي والمفاجئ من المنطقة.
في موازاة ذلك، كانت أخبار انتهاكات وحدات حماية الشعب الكردية ضد السكان في ريف تل أبيض كعمليات السرقة من البيوت، ومصادرة الأغنام والآليات الزراعية، والاعتقالات والطلب من بعض سكان القرى مغادرتها، سبباً إضافياً في خروج سكان المدينة مع اقتراب القوات الكردية منها.
وتعززت مخاوف سكان تل أبيض من السلطة الجديدة بعد الأنباء التي وصلتهم عن تصنيفها إياهم كـ"دواعش" أي متعاونين ومساعدين للتنظيم في حربه ضد القوات الكردية. لكن هذه الصورة بدأت أخيراً في التغير مع عودة أكثر من ألف نازح من الأراضي التركية إلى بيوتهم في تل أبيض، على الرغم من استمرار نزوح عشرات الآلاف من سكان تل أبيض وبلدات وقرى ريفها.
هيمنة السلطة الجديدة تعكسها راية وحدات حماية الشعب الكردية التي لا زالت الوحيدة المرفوعة على سارية المعبر الحدودي من الجانب السوري وفي مدينة تل أبيض القريبة من المعبر. وهو الأمر الذي أثار استياء عناصر قوات الجيش السوري الحر المشاركين في عملية السيطرة على المدينة. وأخبر عدد منهم "العربي الجديد" أنهم "لن يقبلوا برفع راية غير علم الثورة السورية الذي تتوسطه ثلاث نجوم في المدينة التي يشكل العرب نحو ثمانين في المائة من سكانها".
وعلى الرغم من أنّ هذا الاستياء لم ينتج بعد خلافاً على السلطة في المدينة بعد، إلا أنه سيكون سبباً رئيسياً في صدام قد يحصل مستقبلاً بين الشركاء في الحرب ضد "داعش"، الأمر الذي قد يمنع مزيداً من التقدم لقوات حماية الشعب وقوات المعارضة السورية التي تضع عينها على مدينة الرقة، معقل "داعش" الرئيسي في سورية. وباتت الرقة على بعد نحو خمسة وثلاثين كيلومتراً فقط عن مناطق سيطرة قوات حماية الشعب الكردية وقوات المعارضة السورية.
في غضون ذلك يبدو أنّ بوادر حسن النية، التي ظهرت أمس الأربعاء من قوات وحدات الحماية الكردية، لا تزال غير قادرة على تطمين عشرات الآلاف من أبناء المنطقة العرب ليعودوا جميعاً إلى قراهم وأحيائهم التي سيطرت عليها الوحدات.
وقدمت وحدات "حماية الشعب" أربعمائة لتر مازوت لكل صاحب مولدات كهرباء ضخمة في قرية تل أبيض شرقي ليقوم بتقديم الكهرباء للسكان الباقين ريثما يتم إصلاح الشبكة العامة.
وبينما فرن الإسكان في مدينة تل أبيض قدم الخبز لمن تبقى من السكان بأسعار معقولة، قبل أن يبدأ عناصر الوحدات الكردية بتوزيع الخبز مجاناً على السكان المتبقين يوم الأربعاء. أما باقي الأفران بحاجة للوقود والكوادر البشرية والطحين. وهي أمور تنتظر تنظيمها من السلطات الجديدة التي سيطرت على المدينة. وربما تكون هذه من الأولويات القصوى لمن يستولي على المدينة اليوم خصوصاً مع بدء عودة السكان إليها.
وتحتاج المدينة إلى مجلس محلي، يشرف على تنظيم الخدمات فيها. كما أنها في حاجة إلى اتفاق بين القوات الكردية وقوات الجيش السوري الحر على تنظيم المسائل الأمنية. والأهم بالنسبة لكثيرين هو توفّر إرادة حقيقية من قوات حماية الشعب الكردية بالدرجة الأولى وقوات المعارضة السورية بالدرجة الثانية لحماية سكان تل أبيض وعموم المناطق التي انتزعت هذه القوات السيطرة عليها من تنظيم "داعش".
اقرأ أيضاً ما بعد تل أبيض: هاجس إقامة الدويلة الكردية