تنبّهوا واستيقظوا أيها العربُ
هل ثمّة ارتباك قيمي ومعرفي وروحي مرّت به غالبية الشعوب العربية خلال قرون، مثلما نرى في اللحظة التاريخية الصعبة الراهنة؟! فالناس محاصرون بثقافات قاتلة تاريخية، انفجرت فجأة في وجوههم؛ وبصراعات سياسية ومجتمعية قاسية، حطّمتهم روحياً وثقافياً، قبل أن تقتل مئات الآلاف، وتجرّدهم من حقهم في الحياة، وتجرّد القاتلين من إنسانيتهم وقيمهم.
أصبح أمراً طبيعياً وعادياً أن تواجه ناساً كثيرين يعيدون صوغ السؤال الكبير: من نحن؟ إذا كان الجواب سوريون وعراقيون؛ فما يحدث مزّق هذه البلاد والوطنيات فيها، أم مسلمين؛ فهناك اليوم سُنّة وشيعة وإخوان وسلفيون وصوفيون يتنازعون الحديث باسم الإسلام. كيف نعرف المسار الصحيح، وكيف نعرف ما يريده الله وما هو الدين الذي من المفترض أن ندين به لله؛ هل هو قطع الرؤوس والذبح، أو تحليل قتل المدنيين؟
لم تعد الثقافة العنصرية والطائفية، بما يتخللها من تحطيم للقيم الإنسانية والأخلاقية الحضارية، أمراً مذموماً، إذ تهيمن وتنتشر اليوم لتشكّل خطاباً سائغاً مقبولاً، وربما باتت هي الخطاب السائد في الإعلام والمنتديات السياسية والفكرية!
لم يعد الوجدان المجتمعي العربي يهتزّ كثيراً عندما يشاهد ملايين السوريين يشرّدون ويقتلون ويستباحون، ولا ينتفض العقل العربي، ليطرح أسئلة أساسية، عندما يرى مئات آلاف من العراقيين الهاربين من جحيم الحرب في الأنبار، وهم يعيشون في العراء على أبواب بغداد، يمنعون من الدخول إليها، إلاّ بعد البحث عن "كفيل" من المدينة، فأيّ معنىً صارخ سافر أكثر من هذا، لما وصل إليه الانهيار الأخلاقي؟ وأيّ دلالة على غربة الإنسان وتحطيمه في وطنه أكبر من هذه!
ولعل أوضح مثال على ذلك هو موقف النخب العربية تجاه النفوذ الإيراني وعاصفة الحزم، أو ما يحدث في سورية والعراق، فنحن منقسمون بين خطاب ضد إيران، يتلبس بعداً طائفياً في داخل العالم العربي نفسه، فتمتزج المعارك السياسية والعسكرية بلغة تخوّن الشيعة العرب، وتكفّرهم وتجعلهم أعداءً، وتتجاهل أنّهم مواطنون في نهاية اليوم، ولا تجيب على السؤال الأكثر أهمية: لماذا خسرناهم؟ وكيف نستعيدهم؟ ولماذا ذهبوا يبحثون عن مأوى آخر غير أوطانهم؟
في المقابل، نجد نخباً قومية ويسارية ومحافظة عربية تؤيد إيران والأنظمة الاستبدادية الطائفية التي تدور في فلكها، وتتعامى عن مأساة ملايين السوريين والعراقيين، وكأنّهم ليسوا مواطنين، أو حتى بشراً لهم الحق في الحياة وتقرير المصير.
في ثنايا اللحظة الراهنة، وفي موازاة هذه الخطابات العنصرية المتضاربة، ينمو اليوم خطاب آخر راديكالي مسكون بالخيبة واليأس والقلق وفقدان الأمل في أوساط الشباب العربي المحبط، الذي لا يجد أفقاً سياسياً سلمياً للتغيير، بعد أن أوصلته الثورة المضادة إلى الحائط، ويعاني من ظروف التهميش الاقتصادي والسياسي وإغلاق الفضاء العام، فلا يجد أمامه إلا داعش ونموذجها العدمي، وإلاّ كيف نفسّر انضمام آلاف الشباب العرب، اليوم، إلى هذا التنظيم والتيار، وانتشاره مثل الفيروس والمرض، وكيف لا نعتبره ابناً شرعياً للحظة الراهنة، ولفشل الأنظمة السلطوية، سياسياً وأخلاقياً وتنموياً.
يتحدث المدير العام لمنظمة العمل العربية، أحمد محمد لقمان، عن 20 مليون شاب عربي عاطل عن العمل، تصل نسبتهم إلى 30%، ما يذكّرنا بما طرحه الخبير التنموي الأردني، الدكتور عمر الرزاز، من ضرورة التنبه إلى خطورة ما تسميه الأدبيات التنموية الدولية بـ"جيل الانتظار"؛ وهم جيل الشباب الذي تجاوز مرحلة الدراسة، ويبحث عن فرصة عمل، ويعاني من شبح البطالة، ويواجه الإحباط والكبت.
من المهم أن نأخذ مصطلح "جيل الانتظار" ضمن منظور أبعد من الجانب الاقتصادي؛ إلى السياسي والثقافي والمجتمعي، لنعرف مدى أهمية هذا الموضوع بالذات وخطورته في مجتمعاتنا. إذ بينما الحكومات تُمضي الوقت في حساب "عجز الموازنة" وتراكم المديونية، فإنّها لا تعطي الأولوية والأهمية نفسها لـ"عجز فرص العمل" وتراكمات البطالة الموجودة، وخطورة ذلك على جيل الشباب الجديد، وليس من الغريب، بعد ذلك، أن تقع نسبة كبيرة منه في أتون الفكر المتطرف أو العدمي أو الضياع، وما هو أخطر من هذا وذاك، فقدان البوصلة وغياب الهويات الوطنية الجامعة أمام عجز الخطابات السائدة عن تقديم البديل، وفي ظل انسداد المجال العام. وإذا كان الجواب أنّنا عرب؛ فأين هي العروبة ونحن نفتك ببعضنا، ونفعل بأنفسنا ما لم يفعله فينا احتلال ولا استعمار حديث أو معاصر؟!
كنّا نتحدث، في الأعوام الماضية، عن إعادة تأهيل المجتمعات السورية والعراقية والليبية، بعد هذه المجازر البشعة والحروب الداخلية الطاحنة؛ بما يشمل مئات آلاف المواطنين والأطفال الذين تضرروا نفسياً واجتماعياً كثيراً مما جرى، هذا على فرض أنّه يمكن أن يكون هناك حلّ سياسي. لكن، يبدو أن من المفروض أن تتم إعادة تأهيل للإنسان العربي في أغلب الدول والمجتمعات، اليوم؛ في حال كان هناك أفق لنخرج جميعاً من هذه الأزمة التاريخية الروحية والثقافية والإنسانية المجتمعية!
هذه دعوة للنخب المثقفة والسياسية العربية أن تفيق وتستيقظ على خطورة الانهيار الأخلاقي والثقافي الجاري، لتقدم الخطاب الحضاري الإنساني العربي البديل الذي يضع مهمته الرئيسة في استعادة قيم المواطنة والتعددية والديمقراطية والعدالة، ويناهض العنصرية والتكفير والتخوين، قبل أن نغرق، جميعاً، في شباك هذه الثقافة الظلامية التي تتكفّل ليس فقط بتحطيم الواقع، بل والمستقبل أيضاً.