عاد الدينار الجزائري للتهاوي، منهيا قرابة 24 شهرا من شبه الاستقرار، وعادت معه مخاوف المواطنين من تهاوي القدرة الشرائية لجيوبهم المنهكة أصلا بغلاء المعيشة. ويصاحب هبوط العملة الجزائرية، التي تترنح منذ 2015، مع بداية تهاوي عائدات النفط، استغلال حكومي لإحداث توازنات مالية، تمتص بها أثر صدمات أزمات الإيرادات وتبخر احتياطي البلاد من العملة الصعبة بسرعة فاقت توقعاتها.
وواصل الدينار تراجعه مقابل العملات الأجنبية خلال التعاملات المالية الرسمية، مطلع أغسطس/ آب الجاري، حيث تأثرت أسواق الصرف الرسمية سلبا مع حالة الركود التي ضربت الاقتصاد، منذ شهر مارس/ آذار، بفعل تفشي فيروس كورونا وتراجع إيرادات البلاد من النقد الأجنبي، مع فقدان أسعار النفط 60% من قيمتها خلال الربع الأول من العام الجاري، 2020، إذ فقد الدينار تماسكه مقابل الدولار واليورو في تعاملات البنوك.
وسجّل سعر العملة الأوروبية، اليورو، في البنك المركزي الجزائري، ارتفاعاً غير مسبوق أمام الدينار، إلى نحو 152 ديناراً لليورو الواحد للشراء، كما ارتفع الجنيه الإسترليني أمام الدينار، وفقاً لآخر تحديثات "المركزي"، وبلغ 163 ديناراً للشراء، أما الدولار فربح ديناراً واحداً في غضون أسبوع، إذ استقرّ سعره عند 129 ديناراً للشراء. وكان الدينار قد تراجع في مطلع يونيو/ حزيران المنصرم إلى أدنى مستوى له أمام العملات الأجنبية، منذ بداية تفشي جائحة كورونا، إذ سجّل سعر الدولار في البنك المركزي الجزائري 129.482 ديناراً للشراء، كما ارتفع سعر صرف العملة الأوروبية الموحّدة (اليورو) أمام الدينار إلى 142.88 ديناراً للشراء، أما الجنيه الإسترليني فاستقر عند 159.28 ديناراً للشراء.
وقبلها، خسرت العملة الجزائرية أكثر من 4 دنانير أمام الدولار، مطلع إبريل/ نيسان المنصرم، مع بداية الأزمة الصحية، إذ بلغ سعر الصرف 127.02 ديناراً للدولار الواحد، بعدما كان عند 123 ديناراً، مطلع مارس/ آذار، كما قفز اليورو من 135 ديناراً خلال مارس/ آذار الماضي إلى 137 ديناراً في إبريل/ نيسان المنصرم.
مخاوف الجيوب المنهكة
عادت المخاوف في الجزائر من ارتفاع الأسعار لتتقدم المشهد الاقتصادي، بعد تسجيل الدينار لأرقامٍ تاريخية أمام الدولار واليورو، ما ينذر بمزيد من الغلاء، ويهدد الخطط الحكومية الرامية إلى إلغاء الدعم تدريجياً.
كما أثار تعويم الدينار مخاوف المتابعين للشأن الاقتصادي، الذين يتوقعون أن يسرع تعويم الدينار من وتيرة تراجع القدرة الشرائية للجزائريين.
وفي هذا السياق، يقول الخبير الاقتصادي جمال نور الدين إن "انخفاض قيمة الدينار أثر سلباً ليس فقط على الفقراء وإنما على الطبقة المتوسطة أيضاً، وهو يهدد بتعجيل انهيار القدرة الشرائية أكثر في السنة الحالية، بسبب تواصل عملية التعويم وتمسك الحكومة بسياسة تقليص فاتورة الواردات من خلال خفض قيمة الدينار لإطالة عمر احتياطي الصرف".
وأضاف الخبير الاقتصادي في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الحكومة مدعوة اليوم للتدخل من أجل حماية القدرة الشرائية للمواطن".
ورغم تخصيص الحكومة 24% من الإنفاق لمخصصات الدعم، وفق بيانات موازنة 2020، إلا أن هذا الإجراء لم ينجح في تحسين القدرة الشرائية للمواطنين.
4 أسباب لتهاوي الدينار
ويرى الخبير المالي نبيل جمعة أن "استمرار هبوط قيمة الدينار سببه انهيار أربعة أسس حدد بموجبها سعر صرف العملة المحلية، من طرف الحكومة والبنك المركزي، الأول يتمثل في الإنتاجية المحلية، التي تدهورت في ظل الأزمة النفطية التي أضرت بالأنشطة الاقتصادية"، موضحا أن احتقان الوضع السياسي غذى الصعوبات التي تواجهها الشركات الحكومية والخاصة، وبالتالي تراجع الإنتاجية. ويشير جمعة في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "الأساس الثاني الذي تسبب في انهيار العملة يتعلق بأسعار الطاقة، التي تعد المورد الرئيسي للبلاد من النقد الأجنبي، والتي بقيت ضمن مستويات أقل من تلك التي كانت قبل الأزمة النفطية، أما الثالث فيتعلق بالإنتاجية مقارنة بدول الجوار في المنطقة المغاربية والبحر المتوسط والاتحاد الأوروبي، والتي وصلت إلى مستويات ضئيلة مقارنة بدول المنطقة، فيما يمثل تراجع النمو الاقتصادي الأساس الرابع لانهيار العملة، بفعل التوقعات التي تشير إلى أنه قد يصل إلى نحو 4 بالمئة، غير أنه واقعيا يبلغ نحو 1.2 بالمئة".
حسابات الحكومة ترجع خسارة الدينار لشيء من بريقه أمام العملات الأجنبية، إلى تبنّي البنك المركزي الجزائري سياسة تعويم الدينار، عند الضرورة، حيث سبق أن فقد الدينار جزءا كبيرا من قيمته منذ بداية الأزمة النفطية في منتصف 2014، لمواجهة تبعات تراجع عائدات النفط وكبح فاتورة الواردات، حسب مراقبين. وفي بداية الأزمة النفطية، منتصف 2014، كان سعر صرف العملة المحلية يساوي 83 دينارا لكل دولار، ثم تهاوى إلى 118 دينارا في 2018، ثم إلى 123 طيلة 2019 ومطلع 2020. وقدمت الحكومات المتعاقبة منذ 2014، تبريرات بأن تعويم العملة كان جزئيا فقط، والهدف منه امتصاص ارتدادات الصدمة النفطية التي أضرت باقتصاد البلاد.
ووجهت الأوساط الاقتصادية انتقادات للحكومات المتعاقبة منذ 2014، بإخضاع سعر صرف الدينار للتعويم الجزئي لإملاءات سياسية إدارية من قبل رئاستي الجمهورية والحكومة، بدلا من تركه للتحركات الاقتصادية وقوى العرض والطلب.
وفي السياق، يؤكد مستشار الحكومة السابق والخبير المالي عبد الرحمان مبتول أن "تعويم الدينار من الجانب الموازناتي والمالي للدولة هو شيء إيجابي، إذ سيسمح للحكومة برفع عائدات الجباية النفطية التي تضخ مباشرة في الخزينة العمومية. وأضاف أنه في الموازنة المالية التكميلية لسنة 2020 تتوقع الحكومة تراجعا محسوسا لعائدات الجباية النفطية، التي نزلت قيمتها لأول مرة منذ أكثر من عقدين إلى تحت مستوى إيرادات الجباية العادية، بسب تهاوي عائدات النفط، لينتهي بذلك زمن سياسات الريع النفطي، إذ تتوقع الحكومة تحصيل 11 مليار دولار مقابل 20 مليار دولار السنة الماضية".
وشكل النفط أهم المبيعات الجزائرية نحو الخارج خلال الأشهر الثلاثة الأولى من 2020، إذ مثل 92.40 بالمائة من صادرات الجزائر، حسب أرقام الجمارك، حيث بلغت إيراداته من العملة الصعبة 7.04 مليارات دولار، مقابل 9.48 مليارات دولار في الفترة نفسها من السنة الماضية، مسجلة بذلك تراجعا بواقع 25.35 بالمائة. وأضاف مبتول لـ"العربي الجديد"، أن "النقطة الإيجابية الثانية التي تريد الحكومة تحصيلها من تعويم الدينار، هي تقريب الفجوة بين أسعار الصرف الرسمية والسوق الموازية التي يستقر فيها اليورو عند 188 دينارا، مقابل 152 رسميا، و129 دينارا للدولار الواحد في التعاملات الرسمية مقابل 160 دينارا في السوق الموازية.