يُعدّ عام 2014 أكثر الأعوام سوءاً على المهاجرين غير الشرعيّين واللاجئين في رحلات التهريب البحري، بحسب تقارير منظمات دوليّة تُعنى بهذا الشأن. فالثمن أتى باهظاً، إذ قدّرت منظمة الهجرة الدوليّة والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بالإضافة إلى أرقام إيطاليّة، أن نحو 3400 شخص على أقل تقدير قضوا غرقاً، ومن بينهم أطفال ونساء. وقد رأت هذه الجهات أن المهرّبين "يرتكبون جرائم ضد الإنسانيّة" بحثاً عن الربح السريع، لافتة إلى المآسي والكوارث الاجتماعيّة التي تطال الناجين.
عائلات كثيرة خسرت واحداً من أبنائها أو أكثر في مسارات التهريب تلك. لكن الأثمان البشريّة ليست وحدها التي دفعت بدول أوروبيّة عدّة إلى إطلاق حملات صارمة لمواجهة مهرّبي البشر، بل الزيادة الكبيرة في أعداد الواصلين إليها عبر التهريب.
تحوّل التهريب تجارة قائمة بحدّ ذاتها، تعتبرها قوانين بعض الدول الأوروبيّة "جريمة منظمة" وتصل عقوبتها إلى السجن من 8 إلى 13 سنة في حال إثبات الجرم.
وتنتشر قصص استغلال المهرّبين لمآسي السوريّين والفلسطينيّين من سورية، في كل من تركيا واليونان وبلغاريا ومصر وليبيا. لكن الحديث مع هؤلاء الذين ألقي القبض عليهم، من سائقين وبعض "وسطاء"، يكشف عن وجه آخر يتمثّل في أن هؤلاء الذين يقفون في قفص الاتهام ليسوا سوى "سمك صغير" في عالم يسيّره حيتان وأسماك قرش.
أما مصطلحات مهرّبي البشر، بحسب ما تسرّب من مراقبين أمنيّين في دول الشمال التي يوعد الناس ببلوغها، فتعبّر عن الاستهتار الكلي بأرواح البشر. فهؤلاء يتحدثون عن الناس بتسميتهم "بضائع" أو "بقايا حمولة".
في محطة قطارات ميلانو (شمال إيطاليا)، يتجمّع الناجون من رحلة موت بحري. يصعب الحديث مع مهرَّب في هذه الأجواء، لكن في النهاية نحصل على الرواية.
"إلى ألمانيا؟ 700 يورو (853 دولاراً أميركياً). السيارة تتسع لثمانية أشخاص في الصندوق. ممنوع النزول منها جماعياً، أما الاستراحة فللضرورة فقط". بصرامة يأتي الشرح، وكأن البضاعة المعروضة غير قابلة للمفاصلة. ولكلّ منطقة أوروبيّة تسعيرتها.
ينفي الوسيط استفادته من الموضوع، قائلاً: "كل ما في الأمر أنني أحاول مساعدة هؤلاء المساكين". لكن ما يُكشف لاحقاً أن هذا الوسيط ليس سوى خط وصل بين مخططي التهريب و"الزبائن".
سائق آخر يعود من رحلة إلى الدنمارك. يخبر: "التقيت بأحدهم، فسألني إن كنت أرغب بالعمل. في ذلك الحين، كنت أحتاج العمل فعلاً. لم أكن أتصوّر ما سيعرضه عليّ. اعتقدت أن الأمر يتعلق بنقل داخلي لخضار أو مواد غذائيّة، وأنا لم أكن قد سافرت براً في السابق. دهشت حين عرض عليّ تهريب البشر في سيارتي. خفت بداية، لكن المبلغ أغراني. هذه آخر رحلة أقوم بها. لقد اعتقل سائق أفريقي لا يعرف شيئاً عن المدن الأوروبية، مثلي تماماً".
"خط التهريب" الذي تمّ الكشف عنه يصل جنوب إيطاليا بمدن الشمال الأوروبي، عبر مدينة كولدينغ في جنوب وسط الدنمارك. ويعمل المهرّبون على تقديم وعود للاجئين المضطرين إلى مغادرة إيطاليا، بأنهم سيحصلون على إقامات سريعة وامتيازات كبيرة في تلك البلدان.
السائقون في خطوط التهريب ليسوا دائماً من الأجانب. فقد تجد بينهم إيطالياً عاطلاً من العمل يقبل بالقيام بمثل هذه الرحلات التي يحصّل من خلالها 350 يورو (427 يورو) عن كل شخص يهرّبه.
سعيد (اسم مستعار)، من الذين جرى تهريبهم، يقول: "أنا من سكان لبنان. قالوا لي إنه ما عليّ سوى التصريح بأني من سورية، وبالتالي أُمنح إقامة". ويخبر: "بعد رحلة في سيارة فان مغلقة مع عشرين شخصاً آخر على مدى أربعة أيام، تركونا في منطقة غريبة، بعدما أخذوا منّا المبلغ المتبقي علينا. وطلبوا منا الانتظار. لكن وبعد مضيّ وقت طويل، رحنا نبحث عن مخفر للشرطة. وهناك، خضعنا لتحقيق دقيق حول شخصياتنا. فاكتشفت السلطات أنني لست سوريّاً، وهذه بحدّ ذاتها مشكلة لي".
من جهته، يخبر مظفر (اسم مستعار): "تورّطت في إعارة جواز سفري لتهريب شخص آخر في مقابل وعود بأن يعاد إليّ مع مبلغ 700 يورو. وها أنا الآن أواجه مشكلة قانونيّة أمام المحاكم، بعدما اعترف المهرّب بأنني أعرته إياه".
إلى ذلك، يستفيد من التهريب جواً وبجوازات سفر مسروقة أو مزوّرة أو مؤجّرة، المقتدرون المستعدّون لدفع تكاليف باهظة. فرحلة التهريب الجوي، ومنها عبر اليونان، تصل كلفتها إلى نحو سبعة 7 آلاف يورو (أكثر من 8500 دولار)، وتشمل تذكرة السفر عبر خط يبدأ من إسطنبول. وقد يكون الشخص محظوظاً، بحسب ما يلفت أحدهم، ويقول: "لأن لوني أكثر بياضاً مقارنة مع سواي، نجحت بعد المحاولة الثانية بالعبور من دون إثارة انتباه الشرطة اليونانيّة في المطار".
في الأشهر الأخيرة من عام 2014، ارتفعت في عدد من الدول الأوروبيّة الأصوات المطالبة بتشديد التعاون الأمني في ملاحقة مهرّبي البشر عبر البحر الأبيض المتوسط، وهؤلاء الذين يجري نقلهم عبر السيارات مثلما جرى مع سعيد. والرقابة المشدّدة وتقديم وعود لمَن يدلي بمعلومات حول المهرّبين بالنظر في طلب لجوئه، دفعا بالبعض إلى تقديم شهادات للتعرّف على بعض تجار التهريب. لكن، وبحسب ما يقول أحد الموقوفين، "لسنا سوى سمك صغير. الحيتان لا يتمّ الوصول إليها ببساطة". وهو يرفض الكشف عن "الحيتان"، بذريعة أنهم "يعرفونني ويعرفون عائلتي".
في محاولة لتفكيك الشبكات، تجري المساومة على "السمك الصغير"، من خلال طلب إنزال أحكام قاسية بحقهم لدفعهم إلى الإدلاء بمعلومات عن الذين يديرون الشبكات. في الدنمارك اليوم، نجد في مراكز الاحتجاز على ذمة التحقيق، نحو 70 مهرباً في انتظار محاكمتهم، بينما لم يكن العدد في العام الماضي يتجاوز الأربعة. وفي ذلك، لمحة صغيرة عن ازدياد شبكات التهريب وكذلك الإجراءات الأمنيّة لوقف الإتجار بحاجات الناس.
لكن يبقى أن الشبكات لا تُكشف كلها.
وتنتقد المنظمات الحقوقيّة والأحزاب اليساريّة المعارضة التراخي في مسألة مساعدة طالبي اللجوء، وتشير إلى أنه، ومن أجل تفادي نشوء شكل من أشكال العبوديّة التي يصبح فيها بعض البشر مدينين لمهرّبيهم، يجب أن تعطي الدول فرصة لهؤلاء للإدلاء بما لديهم بدلاً من تركهم فريسة للمهرّبين.
50 مليون مهاجر غير شرعي
كشفت منظمة الهجرة الدوليّة في آخر بياناتها أن عدد المهاجرين غير الشرعيّين وصل إلى 50 مليوناً، وقع 21 مليوناً منهم ضحيّة للعمل القسري في جميع أنحاء العالم. وأشارت إلى ارتفاع عدد المهاجرين الذين لقوا حتفهم أو اختفوا قبل الوصول إلى البلاد التي كانوا يتوجهون إليها، مع 4900 مهاجر في عام 2014 مقارنة مع 2400 في عام 2013.