ذات يوم، وقف توماس ترانسترومر، الذي رحل أول أمس، في "البيت النوردي" في العاصمة الآيسلندية، صامتاً ينظر إلى إحدى العواصف المارة فوق الجزيرة. العاصفة، بالنسبة للآيسلنديين، كانت كأي عاصفة أخرى، ظرفاً روتينياً، اعتيادياً، بكل ما فيه من نزعة للتخريب وتهديد الحشرات الضعيفة وفراخ البط والأشجار. إلا أنها بدت لترانسترومر، ربما، ظاهرة غير مكتملة. ولعل ما استوقفه فيها هو عزلتها.
فالعواصف على كبر حجمها، وهَوَسها، وضخامة أصواتها ومجاهرتها بالافتتان بالحروب والانفلات عن كل سلطة أو ميثاق، هي أيضاً كائن معزول. جديلة هوائية مؤقتة، محكومة بالزوال. ذلك أن عمر العواصف قصير. وهي في هذا، لا تشبه الشعر. الشعر الجيِّد تحديداً. الذي يسعى للخروج عن سلطة الجغرافيا، ومقاييد السياسة والتحليل النفسي وكل نظرية فنية أو شعرية رائجة.
في ذلك اليوم، لم يكن من فاصل بين ترانسترومر (1931 - 2015) والعاصفة تلك، سوى لوح من الزجاج، سميك وكئيب، لم أشعر يوماً خلال زياراتي المتكررة إلى "البيت النوردي"، بأي ألفة تجاهه. ولم أكن أتخيّل، ولا في أسوأ أحلامي، بأن ذلك اللوح، الشريحة الضخمة والرتيبة في موضعها، هو ما سيجعل ترانسترومر يكتب جملته "الزجاج، أليس فكرة مذهلة؟" في قصيدته الشهيرة "إعصار آيسلندي".
عندما أخبرني أحد الكتّاب الآيسلنديين بالحكاية، أشار دالاً بإصبعه بحماسة إلى المكان قائلاً: "هنا وقف توماس ترانسترومر!"، ثم صمتَ. وأنا الذي لم أحتمل فكرة أن يكون ترانسترومر، وقف في مكان ذي طاقة خافتة على استعداد لأن يمتصَّ وبنهم كلَّ إحساس شاعريّ فيكَ، سألتُه بلطافة كاذبة وبنبرة مزجتُ فيها الفضول بالاستخفاف: "وماذا وقف يفعل؟"، قال: "وقف يكتب قصيدة. "إعصار آيسلندي"، هل قرأتَها؟".
أحسستُ في تلك اللحظة كما لو أن حنكليساً طائراً لسع أذنيَّ وأفقدني لوهلة توازني. فأن يستطيع شاعر كتابة قصيدة جميلة في مكان رتيب، خافت وعادي كهذا، يعني أنه ببساطة شاعرٌ يرى. بل شاعر هيَّأَتْه الحياة وربما الطبيعة والعلوم واحتكاكه المبكر بالمجرمين الشبان لدراستهم، لأن يكون نازعاً دوماً للعودة إلى نواة الأشياء وتبادل حديث سري مع ما يكمن تحت المسطح البصري لمكونات العالم وظواهره. كما لو أنه يحلِّل مكمنها النفسي ويخرجها من علاقاتها الكلاسيكية بمحيطها والتي أوجدتْها قوانين بائتة في الفيزياء والاجتماع. ليصبح بذلك خلاف شعراء آخرين يكتبون ولا يرون.
كان قد مضى الآن على صمتي تقريباً دقيقة واحدة كاملة. لم أفكر خلالها بهذا كله. بل ببعضه. وربما لم أفكر بأي شيء منه على الإطلاق. لا أتذكر. فقد كنت شاخصاً ببصري نحو المشهد نفسه الذي رآه ترانسترومر من خلف الزجاج. كان ثمة حقل من الحمم البركانية المتجمدة. وقد غرس الآيسلنديون فيه عشباً صغيراً لا ينمو أبداً.
فكرتُ "لا بد أنهم غرسوا هذا العشب لا لينمو، بل ليدغدغ حقل الحمم البركانية"، متسائلاً إن كان ترانسترومر قد فكَّر بهذه الخاطرة الشعرية ثم عدل عن كتابتها، آملاً في كل الأحوال ألا يكون فعل من الأساس.
كان هناك بعض الأشجار، ومن ثم طريق إسفلتي، تليه بحيرة تزنّرها بيوت قليلة. أما خلف ترانسترومر، الذي نظر مثلي إلى المشهد، لكن بظروف مناخية تحكم بها هواء العاصفة العصبي، فكان هناك مئات الكتب التي خشيتْ الآن أن تفتح غلافيها. إذ لم يكن لأي منها ما يكفي من النفوذ للتدخل في ما يقوم بها الشاعر الطويل. فهي كتب، بأفكار منجزة، موضوعة بدفء. كما أنها مرصوصة لتسند بعضها قدر ما تستطيع ضد العاصفة حال أخفق اللوح الزجاجي في مهمته وانهار كما سيحدث ذات يوم، حين سيتهشم الزجاج مفسحاً الطريق للعاصفة لأن تحمل جسد الشاعر وعكازه وتغيب بهما.
"الآن فقط قرأتُها" قلت للكاتب الآيسلندي. فالحقيقة أنني كنت قد قرأتُ القصيدة من قبل ورقياً، وبمنطق القارئ الآلي، بعد أن طلب مني ناشر مراجعتها ضمن أعمال ترانسترومر، لنشرها على الأغلب في نسخة مقرصنة. لكنني أدركت الآن أنني لم أقرأها قبلاً. فكل ما كنتُ أعرفه عن ترانسترومر - بحسب ما كنتُ أعتقد آنذاك – كان شعره. إضافة إلى إنطباعي عنه بأنه "رجل ذو شرف"، إذ لم يكن راضياً عن أي من الترجمات التي لحقت بقصائده، عدا ترجمة واحدة (إلى الإنجليزية).
الآن، كلما ذُكِر اسم ترانسترومر، فتحت القصيدة الوحيدة التي أعرفها جيداً من بين كل شعره ونظرتُ فيها ملياً إلى جسمه الذي يدير لي ظهره لأرى إن كان سيلتفت إليّ.