أنهى التونسيون بانتخاب البرلمان والرئيس الجديدين، مواسم طويلة من انتظار مؤسسات دائمة ومستقرة بإمكانها أن تحدد برامج استراتيجية وتضع خططاً لإصلاح أوضاع نخرها السقوط والفساد والتردي على امتداد عقود من الزمن.
ومع اكتمال تنصيب الرئيس الجديد الباجي قائد السبسي، تسقط كل تبريرات المؤقت وتدخل مؤسسات الدولة الدائمة في اختبار الواقع ومواجهة مشاكل التونسيين المتراكمة في مجالات عديدة، والتي كانت سبباً في اندلاع ثورتهم منذ أربع سنوات.
وعشية 14 يناير/كانون الثاني 2015 موعد الاحتفال بذكرى الثورة، تجد الدولة الجديدة والجمهورية الثانية نفسها أمام امتحانات متعددة، تبدأ بالخبز والإدارة والطرقات، ولكنها تنتهي بما لم يعد ممكنا التنازل عنه، الديمقراطية والحرية.
ولا يُخفى على المتابعين في تونس وخارجها، أن حزب "نداء تونس" الفائز بأغلبية نسبية في البرلمان والرئاسة، يجد نفسه أمام اختبارات قاسية تُطرح عليه أكثر من غيره، بسبب شبح عودة النظام القديم وبعض رموزه، وخصوصاً عودة بعض ممارساته التي قد تُهدد أغلى ما حققته الثورة التونسية لأبنائها، حرية التعبير.
هذا الأمر عبّرت عنه أطياف من المجتمع المدني والإعلامي والسياسي، ويدركه بشكل واضح عدد من قيادات "النداء" نفسه، وعليه، فسيكون على هذا الحزب أن ينجح أساساً في اختبار الثورة الأسمى "حرية التعبير"، وحق التونسيين أحزاباً وأفراداً ومنظمات في إدارة الشأن العام، ما دفع السبسي عشية الانتخابات الرئاسية إلى توقيع وثيقة يتعهد فيها بعدم محاكمة أي صحافي بسبب رأيه، ولكنها تبقى رهينة التأكيد الفعلي من خلال الممارسات اليومية.
ويؤكد قيادي بارز في حزب تونسي كبير معني بالمشاورات الحكومية لـ "العربي الجديد"، أن التراجع عن الحريات لن يكون بقرارات حكومية وبيانات معلنة، ولكن الخشية أن يكون بممارسات مخفية.
وكانت قيادات عديدة في "نداء تونس" أعلنت إبان الحملة الانتخابية الرئاسية أنها تقبل الامتحان وستثبت للجميع حرصها على مكسب الحرية، مشددة على أن حزبها لن يكون بوابة لعودة النظام القديم وممارساته، لأن تونس تغيرت، والعودة إلى الوراء مستحيلة على كل الأحزاب ولا تخدم أحداً بمن فيهم "النداء".
وعلى الصعيد السياسي دائماً، سيكون "نداء تونس" معنياً بامتحان مؤجل إلى ما بعد خمس سنوات من الآن، بعد انتهاء ولاية الرئيس، وهو التداول السلمي على السلطة في حال خسر الانتخابات المقبلة، بعد الدرس الكبير الذي ضربته كل المؤسسات الدستورية التونسية الماضية بتسليمها السلطة سلمياً إلى "نداء تونس" في مشهد حضاري، عكسته صورة الرئيس السابق منصف المرزوقي والسبسي متعانقين أمام قصر قرطاج خلال تسليم السلطة، ما جعل التونسيين يتابعون هذه "الصورة الغريبة "عليهم بدهشة واعتزاز في آن.
وبين أولى لحظات السلطة الجديدة وآخرها بعد خمس سنوات، ينبغي على "النداء" بالذات أن يثبت خلال اليومين المقبلين أنه يتقاسم السلطة ولا يتغوّل، ويتنازل سياسياً لأطراف تشاركه الحكم، كما ينصت جدياً لرأي من يعارضه في البرلمان وخارجه ولا يستأثر بالقرار، وبالتالي عليه أن يكون قادراً على فرض نسق جديد وممارسات داخل مؤسسات الدولة تمكّنها من أن تكون في خدمة المشهد السياسي الجديد.
ولعل مقاومة الفساد في هذه المؤسسات وتوظيف الكفاءات بعيداً عن الولاءات الحزبية، يُعدّ من أدقّ القرارات التي ينبغي أن تُتخذ لإثبات حسن النية وللشروع فعلياً في أولى خطوات إصلاحها، وتبدو العيون مُفتحة بالكامل لمراقبة التعيينات المقبلة ما يجعل الحكومة الجديدة تحت اختبار صعب للغاية.
وستترقب تونس شكل الانتخابات البلدية المقبلة (على الأرجح ستكون نهاية العام) لتختبر نزاهة وشفافية العملية الانتخابية بعد نجاح الهيئتين السابقتين في كل امتحاناتهما من 2011 إلى 2014 على الرغم من حجم الرهان الكبير، وستكون الحكومة الجديدة أمام امتحان إثبات حيادها وحياد إداراتها المختلفة بعد النجاح الباهر لحكومة مهدي جمعة في هذه النقطة بالذات.
وتواجه الدولة الجديدة اختبارات سياسية كثيرة ومتعددة، غير أن المطالب الملّحة الأخرى هي أكثر ما يشغل بال التونسيين اليوم، وهي اقتصادية واجتماعية ولم تعد تحتمل التأجيل، وقد تنذر وفق العديد من المراقبين بانفجار الوضع من جديد إذا لم تسرع الحكومة الجديدة بتقديم حلول واقتراحات.
وستجد الحكومة الجديدة نفسها أمام ضرورة اتخاذ قرارات حقيقية، لإعادة الأمل في تراجع الأسعار (أهم مطالب التونسي البسيط)، وعودة عمل المؤسسات بنسقها الأقصى وتقليص البطالة لدى الشباب، غير أن التحليلات الواقعية تذهب كلها في عكس هذا الاتجاه وتترقب صعوبات أكبر وقرارات موجعة تتطلبها إصلاحات جوهرية لقطاعات ومؤسسات منهكة، وهو ما يعني ضرورة إقناع التونسيين بمزيد من الصبر والتفهّم.
وبدأت ملامح هذه القرارات مع بداية العام الجديد بزيادة في سعر الحليب، والتي ستجر معها زيادات في أسعار كل المواد التي تتشكل منه مع رمزية هذه الزيادة الحاصلة على الرغم من أن القرار كانت قد اتخذته حكومة جمعة.
وما يؤكد صعوبة الامتحان الاقتصادي والاجتماعي للحكومة الجديدة، ما ذهب إليه قيادي بارز في حركة "النهضة" رفض الكشف عن اسمه، حين أسرّ لـ "العربي الجديد" أمس الجمعة أن الاسم الذي توافقت عليه أغلب الأحزاب بما فيها "النهضة" لترؤس الحكومة، عبد الكريم الزبيدي، وضع شروطاً عديدة أمام السبسي، أولها تشكيل حكومة ذات أرضية سياسية واسعة وأغلبية يمكنها أن تكون قوية للقيام بإصلاحات جوهرية تتطلب تضحيات حقيقية على مدى سنتين على الأقل، وهو مطلب موضوعي وواقعي، لا ينطلق من وعود انتخابية بل من واقع صعب تردى على مدى سنوات طويلة.
غير أن "نداء تونس" عليه أن يتجاوز سريعاً حجم خلافاته الداخلية التي أصبحت تُدار في وسائل إعلامية، ليحسم أمر الحكومة ورئيسها وليواجه كل هذه التحديات متماسكاً وقوياً، خصوصاً بعد الخروج الرمزي للسبسي منه، واشتداد معركة الخلافة قبل المؤتمر الأول للحزب في غضون أشهر.