بعد ما كشفته الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية التونسية في 15 سبتمبر/أيلول الماضي التي وضعت شخصاً مستقلاً من دون ماضٍ سياسي في طليعة السباق، توفّر الانتخابات التشريعية، المقررة في 6 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، فضاءً مناسباً لتحتل ما يعرف بالقوائم "المستقلة" مكاناً بارزاً قد يؤثر على الأحزاب ويضاعف من محنتها ويقلص من حضورها داخل البرلمان. عندما خاض التونسيون مباشرة بعد الثورة تجربة المجلس الوطني التأسيسي، انخرط عدد كبير من المستقلين في تلك الانتخابات، لكن الأحزاب هي التي ظفرت بمعظم المقاعد. وكانت تلك النتائج مفهومة وطبيعية، لأن الأحزاب تعتبر الأقدر على التعبئة والإنفاق وتقدّم الصفوف، تحديداً تلك التي تعرّض أنصارها في عهد النظام السابق للاضطهاد والملاحقة. لاحقاً، بدأ يتغير المشهد تدريجياً حين مارست هذه الأحزاب الحكم وتحملت المسؤولية الفعلية، فجاء الحصاد ضعيفاً. وهو ما أدى إلى تفتت كل من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي أسسه منصف المرزوقي، وحزب التكتل من أجل العمل والحريات الذي تولى رئيسه مصطفى بن جعفر رئاسة المجلس التأسيسي، وخسرت النهضة الموقع الأول في الانتخابات.
عند العودة إلى انتخابات 2014، يلاحظ أن المستقلين شاركوا ضمن 334 قائمة مقابل 744 قائمة حزبية. أما اليوم فالأرقام تعكس بوضوح التحول الكبير الذي حصل خلال السنوات الأخيرة. فعدد القوائم المستقلة بلغ 722 قائمة وتجاوزت القوائم الحزبية التي توقفت عند حدود 687 قائمة فقط. الأحزاب في مأزق، والتجربة الحزبية كذلك. هذه المعاينة هي التي تفتح الباب أمام حالة اللااستقرار التي يمكن أن تشهدها البلاد خلال الفترة المقبلة. فتفكك الأحزاب الكبرى مؤشر سلبي بكل المقاييس، أُصيبت به جميع العائلات السياسية بما في ذلك حركة النهضة التي من المتوقع أن تشهد تراجعاً ملحوظاً في البرلمان قد يفقدها نصف المقاعد التي حصلت عليها في البرلمان الحالي. كما انهار اليسار بكل مكوناته. وسيترتب عن ذلك كله، في ضوء نظام سياسي ديمقراطي ناشئ وهش، تراجع دور المؤسسات وتعمّق أزمة الديمقراطية التمثيلية في أولى خطواتها بتونس. كما ستزداد صعوبة تشكيل الحكومات الائتلافية، التي أصبحت ضرورة من ضرورات الحكم لتحقيق الاستقرار في غياب حزب قوي وقادر على توفير أغلبية برلمانية مريحة.
في هذا السياق، حاول رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، استباق الأحداث عندما أكد أخيراً أن حركته غير مستعدة للمشاركة في الحكم مع حزب قلب تونس، بحجة أن قيادته متهمة بالفساد، وبذلك قد تنتقل النهضة من الحكم إلى المعارضة. ولم يصرح الغنوشي بذلك إلا بعد أن أشارت التوقعات إلى احتمال أن يفوز حزب نبيل القروي بالمرتبة الأولى، وأن تحصل حركة النهضة على المرتبة الثانية. وهو ما من شأنه أن يقلب المشهد السياسي كليا، ويعطي فرصة لإنقاذ المنظومة القديمة ويخرجها من المأزق الراهن. وفي المقابل، فإن انقلاب موازين القوى بهذه الطريقة من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه أمام مختلف الصراعات والتجاذبات السياسية والمصلحية بين مختلف الكتل الجديدة والقديمة، خصوصاً إذا فاز قيس سعيّد بالرئاسة ووجد نفسه غير قادر على تنفيذ برنامجه من دون سند سياسي قوي. والمستقلون الذين يتسابقون من أجل الحصول على مقاعد بالبرلمان، هم شتات من الأشخاص والمجموعات، يختلفون في توجهاتهم وأصولهم الاجتماعية، وأجنداتهم السياسية ومصادر تمويلهم. منهم الحريصون على لعب دور إيجابي في البرلمان المقبل، ومنهم من دفعت به لوبيات المصالح أو التهريب لتحقيق مآرب مشبوهة لصالح هذه الجهة أو تلك. كما أن منهم من انخرط في جمعيات ليجد نفسه يؤدي أدواراً حزبية تحت غطاء جمعياتي.
للمستقلين مكانة هامة في المجتمعات المتقدمة، وإسهاماتهم مقدّرة وضرورية، لكن ما يخشى في التجربة التونسية وعليها أن يختلط الحابل بالنابل، فيترتب عن ذلك تفكيك للروابط بين المواطنين في مرحلة دقيقة تمر بها البلاد، وهو ما من شأنه أن يجعل إدارة الشأن العام عملية صعبة ومعقدة.
على الرغم من ذلك، إلا أنه من السابق لأوانه القول إن الأحزاب مهددة بالانقراض في تونس رغم ضعفها وتراجعها، إذ ليس مستبعداً أن تنطلق بعد إعلان النتائج مبادرات حزبية وائتلافية عدة تهدف إلى تصحيح المسارات الحزبية، وتشكيل أحزاب جديدة لا تكرر أخطاء المرحلة الماضية، وتفتح المجال أمام قيادات جديدة وشابة تكون مختلفة في خطابها وأدواتها ومشاريعها السياسية، لأن المستقلين هم ظاهرة عابرة تبرز خلال الأزمات، رغم أهميتهم في حماية الفضاء العام، وفي تعزيز أدوار المجتمع المدني.