يعقد البرلمان التونسي اليوم الخميس جلسة عامة لاختيار ثلاثة من أصل أربعة أعضاء في المحكمة الدستورية، وسط وضع سياسي وبرلماني مأزوم ينبئ بتعطل الجلسة وتأجيلها.
ويزداد الوضع البرلماني والسياسي حدة منذ إعلان مكتب مجلس النواب عن موعد الجلسة، بعد إكمال اللجنة الانتخابية مهمتها بفرز الملفات التي قدمها رؤساء الكتل، حيث أبقت على ملفات 7 مرشحين، منهم 5 من المختصين في القانون واثنان من غير ذلك.
ويشهد البرلمان التونسي أحلك فتراته، باعتصام كتلة الحزب الدستوري الحر، ومنعها انعقاد الجلسات العامة وتشويشها على النشاطات، بالإضافة إلى شروع أربع كتل برلمانية في إجراءات سحب الثقة من رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي. كما احتدمت الصراعات في المشهد السياسي، مع تصاعد الخلاف بين مكونات الحزام الحكومي، حول مصير رئيسها إلياس الفخفاخ والمشهد الجديد، وأيضاً دخول مكونات المعارضة في مواجهات مباشرة.
اعتبر العلوي أن حالة الإرباك والتعطيل والتشويش تقودها كتلة الدستوري الحر
ورشحت كتلة "حركة النهضة" محمد بوزغيبة عن غير المختصين في القانون، وهو جامعي مختص في العلوم الشرعية. أما الكتلة "الديمقراطية" فقد رشحت نور الدين الغزواني ومحمد قطاطة عن غير المختصين بالقانون، فيما قدمت كتلة "قلب تونس" اسمي نور الدين الغزواني ومحمد العادل كعنيش الذي يعد بدوره مرشحاً لكتلة "المستقبل". ورشح "ائتلاف الكرامة" جلال الدين العلوش عن غير المختصين في القانون، فيما قدمت كتلة "الإصلاح الوطني" عبد الجليل البوراوي ونور الدين الغزواني عن مجموعة المختصين. وطرحت كتلة "تحيا تونس" اسمي عز الدين العرفاوي ونور الدين الغزواني عن المختصين في القانون. والأخير يعد أيضاً مرشح "الكتلة الوطنية".
وينص الدستور التونسي على ضرورة تشكيل المحكمة الدستورية في أجل أقصاه سنة بعد الانتخابات التشريعية التي تمت في العام 2014، غير أن الكتل البرلمانية لم تتمكن من انتخاب سوى عضو واحد وهي القاضية روضة الورسيغني، في مارس/آذار 2018 من بين أربعة أعضاء. وفشل مجلس النواب منذ العهدة الماضية في انتخاب بقية أعضاء المحكمة، بعد أن عقد 6 دورات انتخابية وأعاد فتح باب الترشيح في ثلاث مناسبات، بسبب الخلافات بين الكتل والأحزاب حول نزاهة المرشحين وحيادهم واستقلاليتهم.
ووعد رئيس البرلمان التونسي وزعيم "حركة النهضة" راشد الغنوشي، في خطاب توليه رئاسة مجلس الشعب منذ 9 أشهر، بإتمام عملية انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية. وقال، في أول جلسة عامة يترأسها في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، إن "من أولويات عملنا النيابي استكمال انتخاب الهيئات الدستورية، وفي مقدمتها المحكمة الدستورية، التي ألتزم كرئيس ببذل أقصى جهودنا لتركيزها في أقرب وقت ممكن".
وبعد تأجيل جلسات التوافق لمرات عدة، جدد الغنوشي مرة أخرى تعهده، وذلك بالتزامن مع جلسة منح الثقة لحكومة الفخفاخ في 27 فبراير/شباط الماضي، بالانطلاق في مسار إرساء المحكمة من جديد والإسراع بانتخاب الأعضاء الثلاثة المتبقين فيها. ويعد توصل الكتل البرلمانية المتخاصمة إلى توافق أولي خطوة إيجابية وتطوراً لافتاً في ما خص إرساء المحكمة الدستورية، بالرغم من وضع كتلة "الحزب الدستوري الحر" فيتو على مرشحي كتلتي "النهضة" و"ائتلاف الكرامة" وعدم التزامها التوافق معهما.
أخطر شيء هو جعل المحكمة الدستورية إحدى ساحات المعركة السياسية
واعتبر مساعد رئيس البرلمان المكلف بالعلاقة مع الحكومة ورئاسة الجمهورية عبد اللطيف العلوي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "التوافق حول أعضاء المحكمة الدستورية خبر مزعج لمن يبحث عن ترك الباب مفتوحا أمام أي حدث انقلابي أو مؤامرة، ونحن نعرف القوى التي لديها مصلحة بتأزيم الوضع في تونس، وضرب الاستقرار الداخلي المتمثلة في ثلاثي الشرّ، الإمارات والسعودية ومصر، والذين لديهم وكلاء في تونس"، بحسب تعبيره. وأضاف العلوي أن "حالة الإرباك والتعطيل والتشويش تقودها كتلة الدستوري الحر، وريثة التجمع والمنظومة القديمة التي تبحث عن تعطيل المحكمة الدستورية، لأنها تمثل الضمانة لترسيخ الانتقال الديمقراطي في تونس. وبتركيزها ستنتهي المؤامرات واللعب على حبل الدستور وحل البرلمان والتلاعب بالقوانين". وبين أن "من يصب الماء في طاحونة الدستوري الحر، ومن يوفر الحطب لها هي كتل في البرلمان تظن وهماً أنها ستغنم من صراعاتها مع صف الثورة، المتمثل في حركة النهضة وائتلاف الكرامة"، مشيراً إلى "أنها معركة ضد الثورة وضد الانتقال الديمقراطي".
وعلق العلوي على المناخ السياسي العام، قائلاً إن "المؤشرات غير مطمئنة، فهذه الكتلة (الدستوري الحر) تجر بقية الكتل إلى مربعها. فلننتظر ونر ما سيحدث في اختبار يوم الانتخاب". واعتبر أن حزب "الدستوري الحر لا يستطيع بمفرده تعطيل جلسة انتخاب المحكمة الدستورية، وفي جميع الأحوال فإنه لن يقبل بمرشحي النهضة"، مستدركاً "أما إذا التزمت بقية الكتل بوعودها، فإن (اليوم) الخميس سيكون يوماً فاصلاً ونجاحاً منقطع النظير". وأضاف "موضوعياً نحن أقرب من أي وقت مضى إلى انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، لأننا اعتمدنا مقاربة تمكّن كل كتلتين من التوافق حول شخصية، ومن ثم كان هناك توافق شامل وواسع، وهذا ما يبشر بأن هذا البرلمان سيكون على موعد تاريخي مع تركيز المحكمة الدستورية، وهو ما لم ينجح فيه المجلس السابق، فقد كان من المفروض تركيزها بعد عام من المصادقة على الدستور في 2014".
التناطح السياسي ستدفع ثمنه المحكمة الدستورية والشعب
وينذر الوضع السياسي والبرلماني المتشنج وتأزم العلاقات بين الكتل والأحزاب بفشل الجلسة العامة الانتخابية وتأجيلها، بسبب تعكر صفو التوافقات حول المحكمة الدستورية، وتهديد "الدستوري الحر" بمنع أي نشاطات برلمانية. وقالت أستاذة القانون الدستوري هناء بن عبدة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "سبب تعطيل انتخاب المحكمة الدستورية سياسي بامتياز. فمنذ العهدة البرلمانية السابقة وما زلنا ندور في حلقة مفرغة في غياب إرادة للتوافق". وبينت أن "هذا البرلمان والسياسيين عموماً ليسوا على وعي بأن المحكمة الدستورية ليست مجالاً للتناحر السياسي"، مؤكدة أن "أخطر شيء هو جعل المحكمة الدستورية إحدى ساحات المعركة السياسية، وهو أخطر ما يهدد الديمقراطية التونسية. من الأفضل البقاء بدون محكمة دستورية على أن يتم تحويلها لساحة للصراع السياسي والحزبي". ولفتت إلى أن "الخطورة تتجاوز الانتماء السياسي للأعضاء، أو حيادهم، بل في كيفية التعاطي أصلاً مع المحكمة كأنها مجلس علمي، في حين أنها المؤسسة التي ستعطي الدستور والقانون معانيه وستفصل في الخلافات والاختلافات، على غرار معنى الدولة المدنية، أو عبارة الإسلام دينها. وبالتالي يجب أن ننتخب الأكفأ، وليس الأشخاص الأقرب".
وعبرت أستاذة القانون الدستوري "عن تخوفها من خطورة انتخاب بعض المرشحين المنتمين سياسياً، ومنهم من ينتمي للصنف الرديء من السياسة، بما سيجعل القواعد القانونية ساحة للخلاف السياسي". وأضافت أن "المناخ السياسي العام لا يبشر بانتخاب المحكمة الدستورية هذا الأسبوع". وأعلنت أنها "لا تتمنى انتخاب المحكمة الدستورية بهؤلاء المرشحين وفي هذه الظروف السياسية، حتى لا نزج بها في الصراعات السياسية". وتابعت "كل ما يحدث في تونس، بداية من خطاب رئيس الجمهورية (قيس سعيد) حول محاولات التفجير من الداخل والتناحر داخل البرلمان، وما يحدث في الجنوب التونسي والاعتداء على المؤسسات الأمنية والعسكرية، لا يبشر بخير، وهو ما يؤكد أن السياسيين في وادٍ ومشاكل الشعب وانتظاراته في وادٍ آخر".
وانتقدت بن عبدة "غياب الوعي لدى البرلمانيين بأهمية المحكمة الدستورية وضرورة إعلائها والنأي بها عن التجاذب"، مشددة على أنه "بعد إلغاء جلسة عامة حول التنمية في البلاد، بحضور الحكومة، بسبب خلاف بين نواب، نستنتج درجة وعي البرلمان بمشاكل التونسيين، بالإضافة إلى ما يحدث في الجنوب". وقالت إن "التناطح السياسي ستدفع ثمنه المحكمة الدستورية والشعب". وعبرت عن استغرابها "لعدم انتماء أي من المرشحين المقترحين للمحكمة الدستورية لاختصاص القانون الدستوري والقانون العام، رغم اختصاص عدد منهم في مجالات أكاديمية وكفاءة في مجال المحاماة والقانون الخاص"، مشيرة إلى أنه "مع احترامها لجميع المرشحين، فإنه من الأفضل أن يكون من بين الأعضاء مختصون في القانون الدستوري".
وبينت بن عبدة أن "المشكل يتمثل أيضاً في قانون المحكمة الدستورية الذي ينص على أن يتم تباعاً تعيين 4 أعضاء من المجلس الأعلى للقضاء، و4 من قبل رئيس الجمهورية، بما جعل المؤسستين الأخيرتين تنتظران انتخاب مجلس نواب الشعب لـ4 أعضاء"، مشيرة إلى "أنه كانت هناك محاولة لتعديل القانون، بتمكين رئيس الجمهورية تعيين الأعضاء الأربعة الذين في عهدته". وأضافت "في حال لم يوفق البرلمان بانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، فإنه سيطرح من جديد تعديل القانون المنظم لها، كما سيتم طرح موضوع خفض الأغلبية المطلوبة للتصويت على انتخاب أعضائها، من الأغلبية المعززة للأصوات بـ145 إلى الأغلبية المطلقة بـ109 أصوات".