وفي كلمته الافتتاحية، أوضح مدير مكتب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس، د. مهدي مبروك، أن موضوع العنف والسياسة فرض نفسه على الأجندة الفكرية والبحثية، نظرا لما آلت إليه الثورات من عنف غير مسبوق، وهو ما حتّم أن نتساءل عن العلاقة بين العنف والسياسة.
وفي كلمة ألقاها مدير البحوث في المركز العربي، جمال باروت، نيابة عن الدكتور عزمي بشارة المدير العام للمركز العربي، ذكّر بالدورات الثلاث التي سبقت هذا المؤتمر، والتي بحثت في قضايا الإسلاميين ونظام الحكم الديمقراطي، والمسالة الطائفية، وصناعة الأقليات.
وذكر باروت أن اللجنة العلمية التحضيرية لهذا المؤتمر، تلقت نحو 270 مقترحا، أقرت منها 170 مقترحا واعتمدت على 45 ورقة، بعد تحكيمها من قبل مختصين وخبراء في المواضيع ذات الصلة.
وأضاف باروت أن المؤتمر جزء من تقليد المؤتمرات السنوية المحكّمة، التي دأب المركز على عقدها سنويًا.
وقال: إلى جانب المؤتمر السنوي للتحوّل الديموقراطي، هناك المؤتمر السنوي للعلوم الاجتماعية والإنسانية، الذي يعتبر أحد أهم العلامات في النشاط المؤتمري العلمي للمركز، وقد عقدت منه حتى الآن ثلاث دورات.
وينتظر المؤتمر عقد دورته الخامسة في مارس/ آذار من العام القادم، حول موضوعي: "الحرية في الفكر العربي المعاصر" و"قضايا ومشكلات التمدين في المدينة العربية المعاصرة". وستعلن فيه نتائج جائزة المركز السنوية.
كما أن هناك سلسلة مؤتمرات حول العرب والعالم، وقد عقدت منها عدة دورات بحثت في شؤون العرب وتركيا والعرب وإيران.
وقال باروت إن المركز ينظّم المؤتمر السنوي لمراكز الأبحاث، الذي يعمل على تشبيك التعاون والتفاعل ما بين مراكز البحث والتفكير حول موضوعات عربية هامة محددة.
وقد ركز موضوع الدورة الأولى على التحولات الجيو ـ استراتيجية في سياق الثورات العربية، وفي حين ركز موضوع المؤتمر الثاني على قضية فلسطين ومستقبل المشروع العربي الفلسطيني.
أما موضوع المؤتمر الثالث، فتركز حول "دول مجلس التعاون الخليجي: السياسة والاقتصاد في ظل المتغيّرات الإقليمية والدولية".
وبيّن مدير البحوث بالمركز أن نجاح المؤتمر الأخير أدى إلى تحويله إلى منتدى دائم حول الخليج والجزيرة العربية، وسيعقد مؤتمره في ديسمبر/ كانون الأول 2015، حول قضايا التعليم والعلاقات الدولية لمنطقة الخليج والجزيرة العربية.
وأوضح باروت أن هذه المؤتمرات جميعًا مؤتمرات علمية محكّمة، غير أن المركز حرص فيها على محاولة توفير فضاء نقدي حر، للتفاعل ما بين الأكاديميين والخبراء وبين الممارسين السياسيين والمؤثرين في توجيه الرأي العام والقرار عمومًا، بما يغني الأكاديميين بالخبرة ويغني الممارسين بالرؤية وعمق التحليل.
وقال إن فعاليات المركز المختلفة تنطلق من رؤيته الأساسية لقضايا النهضة العربية، واستئناف أسئلتها وإشكالياتها في أزمنة متحوّلة، بوصف أن النهضة لا تزال مرحلة قائمة ولم تحلّ أسئلتها وأسئلتها الجديدة بعد.
وفي عداد ذلك اهتمام المركز بقضايا التغيّر الاجتماعي والتحول الديمقراطي، من منطلق فهمه أن الغاية العليا التي تسعى من أجلها العلوم الاجتماعية والإنسانية هي الحرية.
ويحاول المركز تقديم خدمة علمية يبقى رصيدها مؤثرًا في المستقبل، من خلال إطلاقه لمؤسسة المعجم التاريخي العربي، وقد شارك في إطلاقه وبناء مؤسسته، كما تعمل فيه اليوم مجموعة مختارة من أبرز اللغويين ومؤلفي المعاجم واختصاصيي الحاسوب، وسوف تصدر مجلداته تباعًا على مدار الخمسة عشر عامًا القادمة.
موضحا أن المعجم سوف يرصد تاريخ الألفاظ والمصطلحات العربية على مدى الألفَي سنة الماضية، وسوف يضم مجموعة إلكترونية شاملة، ومن المتوقّع أن تتفرّع عنه معاجم حضارية متخصّصة، ومعجمٌ كاملٌ للغة العربية المعاصرة، ومعاجم تعليمية.
ويجري الآن الإعداد لتنفيذ المؤشر العربي للسنة الثالثة على التوالي، بعد نجاح المؤشر العربي على مدار سنتين في تنفيذ استطلاعات رأي عام في أربعة عشر مجتمعًا عربيًا، على عينات ممثلة لهذه المجتمعات، ضمن أعلى المعايير التقنية والعلمية، للوقوف على آراء المواطنين في المنطقة العربية بقضاياهم.
واختتم جمال بروت كلمته قائلا: "نحن فخورون بأننا ننفذ هذا الاستطلاع على عينات ممثلة للمجتمعات العربية، يتجاوز عدد أفرادها في كل عام عشرين ألف مستجيب. وتمثل تقارير وقواعد بيانات المؤشر العربي ثروةً علمية ذات موثوقية علمية للباحثين والمهتمين والمحللين كافةً".
اقرأ أيضا: إطلاق "منتدى دراسات الخليج والجزيرة العربية"
الدولة والعنف الداخلي
وتضمنت الجلسة الافتتاحية محاضرتين، ألقى الأولى الدكتور منير كشو، وتناول فيها مشكلة التحكّم في العنف في الدول الحديثة وفي مراحل الانتقال الديمقراطي.
وعرج كشو على الأساليب التي اعتمدتها الدولة الحديثة للسيطرة على العنف المجتمعي وذلك باحتكارها استخدام العنف الشرعي، وأن استئثار الدول الحديثة بوسائل القوة والسيطرة على المجتمع وعلى المجال الجغرافي، خلّف تجمّعا هائلا للنفوذ بين أيدي أجهزة الدولة لم تستخدمه دائما لصالح المجتمع والقيم الحديثة التي بُني عليها، وإنما لخدمة مصالح أطراف ومراكز نفوذ اقتصادية وسياسية.
وأشار المحاضر إلى أن الدولة الحديثة سيطرت على العنف الداخلي، لكنها استخدمته ووجّهته ضد شعوب ودول أخرى من خلال الاستعمار والحروب، وخاصة الحربين العالميتين، واستهدفت به أيضا أعداء داخليين لها، وهو ما نراه في الدول الاستبدادية والكليّانيّة مثل الستالينية والفاشية والنازية.
وقال كشو: اليوم هناك أمل في أن يكون تحكّم الدولة في العنف لا من خلال احتكار استخدامه فقط، بل أن يكون أيضا هذا الاستخدام خاضعا إلى الرقابة الدستورية والقانونية والشعبية من خلال الرأي والجدل العمومي وأن يُحصر في الحدود التي يعتبرها الجميع معقولة ومبرّرة.
مضيفا أنه في بلدان التحوّل نحو الديمقراطية مثل بلدنا تونس، حيث إن مؤسسات الدولة من إدارة وقضاء وأمن وجيش، هي في طور إعادة بناء حتى تستجيب لمقتضيات الدستور الجديد، يشكل العنف، سواء في شكل أعمال إرهابية مدمرة أو تفشي الجريمة أو عنف الحركات الاحتجاجية العشوائية أو عنف أجهزة الدولة ذاتها في التعامل مع المواطنين، يشكل تحديا لا بُدّ من رفعه من الدولة دون الارتداد إلى الممارسات القمعية الماضية، حتى لا تتعطل عملية بناء الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
جانب من جلسات المؤتمر |
اقرأ أيضا: مثقفو تونس يقترحون وسائل مواجهة الإرهاب
المجتمع المدني وصنع القرار
وتناول الباحث العراقي د.فالح عبد الجبار، المختص في علم الاجتماع السياسي، خلال محاضرته، نشأة الدولة الحديثة وظاهرة العنف فيها، وما يتطلبه توازن المجتمع لتفادي هذه الآفة، واعتبر أن العنف أمر متصل بطبع الإنسان، وهو وسيلة وجدت في كل المجتمعات والدول وتجسّدت في الحروب والنزاعات الطائفية، وحتى في عمليات الانتحار، وأن الناس يتقاتلون من أجل الحرية ومن أجل الأوطان، وقال إن ربط العنف بالدين من الأخطاء الكبرى التي يرتكبها البعض، رغم أن كل الأديان تجيز العنف وتبرره.
وأوضح عبد الجبار أن هناك أنواعاً من العنف، هي: عنف فرد ضد فرد، وفرد ضد جماعة، وجماعة ضد فرد، ودولة ضد فرد، ودولة ضد جماعة، مشيرا إلى أن ما يهمنا هو عنف الدولة ضد الجماعة.
وأضاف أن الدولة الحديثة تقوم على فكرة المواطن كمفهوم حديث، وتقتضي جملة من الأبعاد، أهمها البعد الدستوري، إذ لا بد من دستور يضمن مبدأ المساواة بين كل الأفراد، وكذلك البعد الاقتصادي باعتبار هيمنة الدولة على الثروة وضرورة انتفاع كل مكونات المجتمع بهذه الثروة.
وقال المحاضر العراقي إن الدولة الحديثة تبني علاقتها بالمجتمع على ثنائية الإكراه والرضا، فكلما قل الإكراه زاد الرضا والعكس صحيح، وقد عرفت البلاد العربية عدة أنماط من الحكم منها الديمقراطي، الذي لم ينجح في الدول العربية، وأيضا النمط التسلّطي الذي يعتمد على الحكم بالعسكر.
وما يلاحظ أن حركة الاحتجاج في البلاد العربية لم تنجح، ومثال ذلك ما حصل في سورية وليبيا، ونجحت جزئيا في بلدان حصل بها إصلاح، مثل تونس واليمن، غير أن تونس تتمتز بأن الحركة فيها هي حركة مدنية، وبأن التمايز الإثني والديني والطائفي فيها ضعيف جدا مع وجود ترابط وتماسك اجتماعي يمنع الصدام، بينما يختلف الوضع عنه في اليمن بسبب حالة الانقسام والطابع القبلي العشائري للمجتمع اليمني.
وأكد المحاضر أن هيمنة الدولة على الثروة والاقتصاد عموما، تؤدي إلى الهيمنة على الطبقة المنتجة ورجال الأعمال، والتحكّم في هؤلاء يؤدي إلى احتكار الاقتصاد ويزيد من سطوة الدولة، ويجعل فئة فقط تتمتع بالثروة، وهو ما يؤدي لاحقا إلى التمرّد والعنف.
أما عن الحلول التي تسمح بالقضاء على ظاهرة العنف، فتتمثل، حسب رأي عبد الجبار، في ضرورة إقرار المشاركة السياسية من خلال السماح للمواطنين بالانتخاب وممارسة النشاط السياسي وإبداء الرأي، وأيضا بحرية تكوين الأحزاب والمشاركة في صنع القرار، وكذلك المشاركة في الأجهزة الإدارية، لضمان حسن توزيع الموارد وضمان الاستقرار، كما أن المشاركة الثقافية أمر هام، وفي غياب هذه الأنواع من المشاركة واحتكار الدولة للموارد، تُدمَّر البلدان.
وأُتبعت المحاضرتان بجلسة نقاش عام، تم خلالها التأكيد على أهمية محور هذ المؤتمر العلمي، خاصة وهو يتزامن مع سياق عربي تتخلله أشكال شتى من العنف الممنهج واللاإرادي، أفرزتها التغيّرات العديدة التي تشهدها المجتمعات العربية المعاصرة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وفي هذا الإطار، أشار بعض الحضور إلى أهمية تعميق تحليل هذه المتغيّرات ومظاهرها المستجدة، التي يمارسها الفرد والمجتمع والدولة.. أسبابها وتداعياتها، وضرورة استخلاص كل الدروس والعبر المتاحة، بهدف المزيد من فهم هذه الظاهرة ومن ثم تحديد الحلول والمقاربات الملائمة لتحصين هذا الفرد وهذا المجتمع وهذه الدولة، ضد كل مظاهر العنف بمختلف أبعاده دون الاعتماد المفرط في ذلك على التجارب الغربية المسقطة.
وقد تلت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر أربع جلسات، انقسمت كل واحدة منها إلى مسارين اثنين يجريان في الوقت نفسه في قاعتين.
وقدمت خلال الجلسات الأربع ما يقارب 30 ورقة بحثية في مواضيع "العنف السياسي في السياقات العربية المعاصرة" و"جماعات العنف" و"العنف السياسي في السياقات العربية المعاصرة: في بعض حالات السودان" و"العنف والهوية" و"بعض مظاهر عنف الدولة: التعذيب ومساءلة مرتكبي الجرائم".
ويستمر المؤتمر ليومين اثنين، ويشمل برنامجه جلسات تقدم فيها أوراق بحثية لباحثين مختصين، ويختتم بجلسة نقاشية يساهم فيها الباحثون المشاركون من مختلف الدول العربية ومن خارجها.
اقرأ أيضا: كابوس العنف يلاحق مدارس تونس