تونس بين النموذجين الإيطالي واليوناني

27 يناير 2015

الصيد يقدم تشكيلة حكومته إلى السبسي (23 يناير/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
بدا وكأن مجلس شورى حركة النهضة في تونس في حالة انتفاضة ضد حكومة الحبيب الصيد التي سيعرضها على البرلمان اليوم الثلاثاء. هي ليست ضد الصيد، بقدر ما كانت ضد حزب نداء تونس، وفي جزء منها ضد قيادة الحركة، ممثلة خصوصاً في راشد الغنوشي. إذ بعد تنازلات كثيرة لا تقدر بثمن، تعلن "النهضة" أنها لن تصوت لصالح هذه الحكومة. وذلك دليل على شعور بالخيبة في الطرف المقابل الذي لم يكن مستعداً حتى لتقديم ترضيات تراها الحركة بسيطة. وقف خصوم الإسلاميين، بكل ثقلهم، داخل "نداء تونس" وخارجه، لقطع الطريق أمام تشريكهم في الحكم، بحجة أنهم خصوم أخفقوا في ممارسة السلطة، ولا يجوز إعادتهم إليها من النافذة، بعد أن أخرجهم الشعب من الباب.
تقوم السياسة على عدة آليات، منها صراع الإرادات، حيث يحاول كل طرف أن يجر منافسيه إلى الأرضية التي يقف عليها، حتى يتمكن من الحصول على أعلى قدر من المكاسب والنقاط لصالحه. وتترتب عن هذا الصراع، العلني والخفي، تنازلات متبادلة، وأحياناً تكون مكلفة لهما. وهذا ما حدث في العلاقة بين الحزبين الكبيرين في تونس.
أدرك الغنوشي أن ميزان القوى تغيّر في تونس، وأن على حركته أن تبني مواقفها وتكتيكاتها على هذا الأساس. وعندما ألقى نظرة على الساحة، لم يجد أفضل من حزب نداء تونس، ليمارس معه لعبة إدارة الشأن العام. وكان الطريق إلى ذلك يمر، أساساً، من خلال بناء الثقة مع الباجي قائد السبسي، الذي لا يستطيع، في الوقت نفسه، أن يغامر بوحدة حزبه، لإرضاء "النهضة". في داخل الحزب تيار قوي معاد للإسلاميين. بل إن الحزب لم يتشكل، في الأصل، إلا لمقاومة "النهضة" وإخراجها من السلطة. لهذا، لم يتمكن الرجل من فرض سياسة التعاون أو التقاطع مع الإسلاميين، على الرغم من تصريحاته المتوالية عن ضرورة مد الجسور معهم، وعدم اعتبارهم خصوماً. مع ذلك، استعمل الراديكاليون في الحزب كل الوسائل للحيلولة دون تحويل هذا الخطاب إلى سياسة مجسدة في الواقع. كل ما قبلوا به مساعدة حركة النهضة على أن تحصل على منصب نائب رئيس في البرلمان، والتنسيق معها في توزيع الأدوار، فيما يتعلق بلجان المجلس.
يمكن القول إن خصوم "النهضة" في حزب نداء تونس، ومعظمهم من اليسار، نجحوا في إسقاط رهان الغنوشي، القائم على تحقيق توافق حكومي وسياسي واسع. لكن، لا يعني ذلك أنهم وجدوا أنفسهم في وضعية مريحة، فالحكومة التي ولدت بصعوبة وجدت نفسها في مأزق منذ اللحظات الأولى. ولا يُعرف إن كانت ستحظى بالثقة، أم ستكون أول حكومة في تاريخ تونس يُسقطها البرلمان. حتى داخل حزب النداء يوجد من أعلن أنه لن يصوت لصالح هذه الحكومة. وقد بُذلت جهود لإقناع مستقلين من البرلمانيين، لمحاولة استمالتهم، حتى يقع تأمين الحد الأدنى من الأصوات، وضمان تمرير الحكومة بأغلبية بسيطة. وفي هذه الحالة، ستجد الحكومة نفسها تحت رحمة الأحزاب الفاعلة في البرلمان، وفي مقدمتها حركة النهضة، فلا تستطيع أن تبادر أو تتحرك بأريحية، ما سينعكس سلباً على أدائها وشعبيتها في المرحلة المقبلة، في حين أن البلاد تحتاج حكومة قوية وجريئة وقادرة على القيام بالإصلاحات الضرورية.
هكذا تبدو اللعبة السياسية في تونس هشّة، حيث لا يزال السياسيون غارقين في التكتيك، يسيرون بدون بوصلة تنير لهم الطريق، وتكشف لهم المطبات الكثيرة. ولهذا، بدل أن يختاروا نموذجاً صلباً وقوياً، مثل النموذج الألماني، يجدون أنفسهم قادوا البلاد إلى أضعف نموذج في أوروبا، هو النموذج الإيطالي، هذا إذا لم يدفعوا الأمور نحو الأسوأ، لتجد تونس نفسها قريبة من الحالة اليونانية، على الرغم من أنها ديمقراطية ناشئة.