كشفت المفاوضات الماراتونية التي قام بها الحبيب الصيد، طيلة الأسابيع الثلاثة الماضية، عن ولادة فريق حكومي مفاجئ لمعظم مكونات الطبقة السياسية. وأثار الأمر ردود فعل الأحزاب، على الرغم أن الكثير منها، لم يكن في صالح رئيس الحكومة، الذي أيّدته أطراف كثيرة عندما تم تعيينه لقيادة المرحلة القادمة، لكنها لم تتوقع أن تكون حصيلة محادثاتها معه تتراوح بين الاقصاء أو التهميش.
على الرغم من ذلك، لا تخلو الحكومة الجديدة من نقاط ايجابية، وأهمها أنها جاءت غير موسّعة، وضمّت 24 وزيراً و15 كاتب دولة. وهو مطلب دعت إليه جهات عديدة، من أجل التخفيف من أعباء الميزانية من جهة، وتفعيل الدور الحكومي من جهة أخرى. كما تميزت بكونها أكثر حكومة تُشرك نساء (تسعة نساء) منذ الاستقلال.
كذلك تبدو الحكومة غير خاضعة للحزب الفائز بالانتخابات التشريعية، والذي اختار الحبيب الصيد لرئاسة الحكومة. فنسبة الوزراء التابعين لحزب "نداء تونس" لا تتجاوز الثلث. حتى أنهم لم ينالوا وزارات سيادية، إلا بوزارة الخارجية، التي تسلّمها الأمين العام للحزب، الطيب البكوش، في حين عُيّنت ثلاث شخصيات مستقلة في وزارات الدفاع والداخلية والعدل.
وكان لافتاً أن الجزء الأكبر من أعضاء الكتلة البرلمانية لحزب "النداء"، لم يكونوا على علم بتركيبة الحكومة، وعرفوا تفاصيلها مع بقية المواطنين عبر وسائل الاعلام. وهو ما دفع بالعديد من كوادر الحزب إلى الإدلاء بتصريحات، انتقدوا فيها ما اعتبره بعضهم تهميشاً لدورهم، خصوصاً وأنهم مطالبون بالدفاع عن هذه الحكومة وتبنّي سياساتها. لكن في مقابل ذلك أعلن رئيس الحكومة بأنه سيلتزم ببرنامج الحزب الذي اختاره، مع تطعيمه بمقترحات الأحزاب والمنظمات الأهلية.
من جهة أخرى، ضمّ الفريق الحكومي شخصيات عُرفت بكفاءتها في مجالات اختصاصها العلمي أو المهني، إلى جانب نشطاء في المجتمع المدني، أثبت بعضهم خلال مرحلة (الرئيس المخلوع زين العابدين) بن علي شجاعة وجرأة، في الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان.
وتكفي الاشارة في هذا السياق إلى كمال الجندوبي، الذي سبق له أن أشرف على "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" الأولى، التي أدارت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي بنجاح، وشهد الجميع بنزاهتها، وأسفرت عن فوز "حركة النهضة" بأكثرية المقاعد التشريعية.
في المقابل، خيّبت هذه التركيبة آمال جزء أساسي من مكونات المشهد الحزبي والسياسي داخل البرلمان وخارجه. وتجلّت المفاجأة الأولى في إعلان القطيعة في آخر لحظة، مع حزب "آفاق تونس"، الذي تمّ الاتفاق معه على تولّي حقيبتين وزاريتين إلى جانب كتابة للدولة، لكنه سرعان ما غيّر الحزب من موقفه، عندما تم تفضيل حزب "الاتحاد الوطني الحرّ"، بزعامة رجل الأعمال سليم الرياحي، عليه. أُرضي "الاتحاد الوطني الحر" في اللحظات الأخيرة بثلاث وزارات، وهو ما اعتبرته قيادة "آفاق تونس" مسّاً بمصداقيتها، وتقليلاً من حجمها، وقررت على ضوئه البقاء خارج الحكومة.
أما الطرف الأهم فهو "حركة النهضة"، التي كان قياديوها متفائلين، حتى الدقائق الأخيرة بأنها ستكون ممثلة في الحكومة. وقد أُصيبت قيادتها وأنصارها بخيبة مؤلمة، إذ على الرغم من وزنها السياسي الذي تتمتع به، والتنازلات التي قامت بها لصالح حزب "نداء تونس" ورئيسه، والتطمينات التي تلقتها، إلا أنها وجدت نفسها خارج الحكومة.
ضايق الأمر رئيس الحركة، راشد الغنوشي، خصوصاً في ظلّ دفاعه عن الرئيس الباجي قائد السبسي، والجهود الكبرى التي بذلها لإقناع قواعده بأن المنهج الذي اختاره هو الأفضل للحركة، في حين أن جزءاً كبيراً من هذه القواعد كانت غاضبة من قبل ذلك، وهو ما يفسر انحيازها الكامل للرئيس السابق المنصف المرزوقي خلال الانتخابات الرئاسية.
وتردد أوساط الحركة أن "اليسار بمختلف مكوناته قد نجح في الضغط حتى تم إبعاد النهضة عن الحكومة، كما تعتقد هذه الأوساط بأن وجوها يسارية عديدة توجد ضمن تركيبة الحكومة، وهو ما من شأنه أن يثير مخاوف الاسلاميين الذين تربطهم باليسار علاقات عدائية منذ نشأتهم الأولى داخل الجامعة في مطلع الثمانينات".
أما "الجبهة الشعبية"، التي اشترطت، إبعاد "حركة النهضة"، للقبول بالمشاركة بالحكومة، فقد وجدت نفسها أمام إشكاليتين. في الإشكالية الأولى، يختلف برنامج "الجبهة" الاقتصادي والاجتماعي عن برنامج الحكومة. وفي الإشكالية الثانية، أبدت "الجبهة" اعتراضها على عدد من الوزراء، وشككت في ذمتهم الأخلاقية والسياسية، وتتجه اليوم نحو عدم التصويت لصالح حكومة الصيد.
هكذا يبدو المشهد العام حالياً، وستتضح الصورة نهائياً، بعد غد الثلاثاء، عندما سيعرض الصيد حكومته على البرلمان، للحصول على ثقة الأغلبية. وتدلّ المؤشرات على أن الحكومة ستنال الثقة بأغلبية بسيطة قد تكون بـ120 صوتاً، أي بزيادة 11 صوتاً عن النصاب الذي هو 109 أصوات.