وأطلق وزير الحكم المحلي، القيادي في حزب "حركة النهضة" لطفي زيتون، نقاشات مطولة بسبب تدوينة على صفحته الرسمية على "فيسبوك". وترحم زيتون على روح بورقيبة، بعدما أثبتت دراسة حول التلقيح ضد السل فاعليته الكبيرة ضد فيروس كورونا. وكتب زيتون: "كلنا يتذكر تلك الصفوف الطويلة في المدرسة الابتدائية لتلقي تلك الوخزة بالمسدس الحاقن... كلنا يتذكر الحمى والألم وشبه تعفن المكان الذي تتركه حقنة تلقيح بي سي جي (التلقيح ضد السل) الذي عممه بورقيبة في السبعينيات (القرن الماضي). كلنا يحمل تلك العلامة الدائرية في أعلى ذراعه الأيسر". واعتبر زيتون أن الأبحاث التي يجريها العلماء في بريطانيا والولايات المتحدة تؤكد اليوم أن ذلك التلقيح، الذي يستمر فعله في جسد الإنسان لأكثر من 60 سنة، يملك فاعلية كبيرة ضد فيروس كوفيد ــ 19 الذي يجتاح العالم، وأن نسبة وفاة الذين تلقوه بلغت سدس النسبة العادية.
وزادت كلمات الرئيس التونسي قيس سعيد من النقاش العام. وكان قد وضع خلال موكب رسمي محدود، بسبب الحجر العام، باقة ورود على ضريح بورقيبة في الذكرى 20 لوفاته، في روضة آل بورقيبة في منطقة المنستير. وقال سعيد إنّه حرص على الحضور إلى المنستير "لتلاوة الفاتحة على روح الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، باعتباره جزءاً من تاريخ تونس، وأحدث ثورة في مجالات التعليم والصحة والأحوال الشخصية". وأضاف "ربّما أخطأ بورقيبة في ممارسة السلطة، وفي تصوّره لبعض الخيارات، غير أنّ التاريخ سيذكر الدور الذي لعبه الزعيم الراحل في مرحلة التحرير الوطني وما بعد الاستقلال". وأكّد على أهمية "اتعاظ الحكّام من التاريخ، وضرورة أن يتطلعوا إلى المستقبل بفكر ثاقب جديد، دون التنكر للماضي والتاريخ ومن سبقهم، على غرار محاولة التعتيم على موكب دفن الزعيم الراحل بورقيبة"، في إشارة إلى فترة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
واعتبر المؤرخ عميرة الصغير، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "الحديث عن بورقيبة لم ينته عند وفاته، لكنه عاد بقوة، خصوصاً من قبل الإسلاميين وروافدهم والقوميين الذين حكموا بعد 2011، والذين يعتبرون أن ما قبلهم كان مرحلة تغريب للدولة وابتعادها عن محيطها العربي الإسلامي، رغم أن هذا خفت قليلاً الآن لأسباب وحسابات سياسية". وأضاف أن "السجال عاد بقوة أخيراً، لمناسبة ذكرى وفاته في 6 إبريل/ نيسان، وأيضاً خلال أزمة كورونا، في مقارنة بين ما حققته الدولة الوطنية وما بعدها، من خلال التلقيحات الإجبارية التي فرضها (كتلقيح السل الذي يرى البعض أنه ساهم في الوقاية من كورونا وغيرها من اللقاحات الهامة لعديد الأمراض)، والكفاءات الطبية التي تزخر بها تونس"، موضحاً أنّ "الحديث عن بورقيبة عاد حوله ليس كشخص وإنما كرمز، والمجتمعات تبحث دائماً عن رموز لتقدمها".
ورأى الصغير أنّ "نقاش السياسيين عن بورقيبة تراجع في فترة ما، وهناك محاولة لنكران كل ما قامت به الدولة أثناء الاستقلال. لكن عاد الحديث عن بورقيبة ليس كشخص بل كقيمة، والتعليم والصحة قيم مهمة في المجتمعات"، مشيراً إلى أنّ "النخبة هي التي كانت تحكم في تونس، وأبرزت رجال دولة منذ الاستقلال ساهموا في صياغة خيارات الدولة وأحزاب قوية، مثل الحر الدستوري ثم الاشتراكي. ورغم الإمكانيات الضعيفة للدولة، التي لا تتمتع بثروات نفطية وغاز، إلا أنها تمكنت من توفير الحاجات الأساسية للتونسي، مثل التعليم والصحة. فنسبة المتعلمين قبل الاستقلال كانت أقل من 10 في المائة، ثم أصبح التعليم إجبارياً. وبالنسبة إلى قطاع الصحة، فقد تم تأسيس وزارة الصحة وتعميم سياسة التوعية الصحية والتلقيحات الإجبارية ضد الأمراض وتنظيم السياسة الإنجابية، وهذا له أهمية بالغة، لأن أميركا مثلاً لا تملك قوانين تجبر جميع الناس على التلقيح، في حين أن الدولة التونسية الفتية قامت بهذا الأمر".
وأشار إلى أنّه "رغم النقائص التي كانت موجودة، مثل الحيف بين الجهات والأفراد، والتي لا ينبغي نكرانها، فقد برزت عديد النخب، وأصبحت نسبة هامة من رواد الجامعات من النساء، وهذا بفضل بورقيبة والكثير من الوزراء الذين كان لهم حس قيادي، وكانوا يرون أن الدولة في خدمة المجتمع". ولفت إلى أنّ "بعض الانتقادات لاهتراء المنظومة الصحية لا يجب تقييمها ومقارنتها بالوضع الحالي، وأن أغلب ما تحقق كان في فترة بورقيبة (المستوصفات والمستشفيات الكبرى وعدد الأسرّة)، رغم الإمكانيات الضعيفة للدولة، وأنها لم تكن كافية أو مثالية، وتلاها تراجع في دعم المؤسسات العمومية بعد بورقيبة لصالح القطاع الخاص، بالإضافة إلى بداية استشراء الفساد وعدم استكمال بناء المنظومة الصحية". واعتبر أنه "لا ينبغي تحميل بورقيبة وحده مسؤولية كل تلك المرحلة، لأنه كانت هناك شخصيات ومنظمات أخرى تحملت المسؤولية، من اتحاد الشغل مثلاً، وكلها شاركت في تحديد الخيارات الكبرى للدولة".
في المقابل، رأى الأمين العام لحركة الشعب النائب زهير المغزاوي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "لا أحد ينكر ما قامت به دولة الاستقلال، ولا ينبغي أن يسند ما تحقق لبورقيبة وحده، ولكن أيضاً بفضل رجالات الدولة الذين حققوا إنجازات في التعليم والصحة. ولكن للأسف، فإن المنظومة الصحية لا تزال تعاني من خلل واضح، فأغلب المستشفيات الجامعية موجودة في 5 أو 6 جهات، وهناك نحو 5 ملايين تونسي ليس لديهم مستشفى جامعي، رغم المجهود الذي بذلته الدولة"، مؤكداً أنه "لا يجب أيضاً المبالغة وتهويل ما قامت به دولة الاستقلال، إذ لا تزال نسبة الأمية مرتفعة في بعض الجهات، والمنظومة الصحية تعاني من عدة نقائص، وأزمة كورونا كشفت الوضع على حقيقته، ولذلك ينبغي تفادي هذا التقديس الذي يسعى إليه البعض، لإقناعنا بأن ما تحقق لم يكن ليتحقق لولا بورقيبة". ولفت إلى أن "المقلق أنّ بعض من يتحدثون اليوم عن إنجازات بورقيبة سبق أن انتقدوا سياسته وتنكروا له عندما انقلب عليه بن علي، لكن الوضع الآن ليس مناسباً للتجاذبات".